يونيو 28, 2024

نحو"مسؤولية مجتمعية" فاعلة

في حديثه الرائع عن "المسؤولية الاجتماعية" للشركات، أشار أ.محمد بن عبدالعزيز السرحان  في كتابه "وقفات إدارية" إلى أهمية اضطلاع القطاع الخاص بدوره تجاه المجتمع، ذلك الدور المنسي عند الكثير من الشركات عموماً، والكبرى منها على وجه الخصوص.

والحقيقة أن المتأمل في دور عدد من الشركات العالمية تجاه مجتمعاتها، بل وتجاه العالم بأسره، يدرك أن هناك نماذج متميزة جديرة بالاحتذاء، وأن ما تصنعه "المسؤولية المجتمعية" من نجاحات يدفعنا للتداعي لمناقشة هذا الملف، وإعادة النظر فيه، وترتيب أوراقه، وحشد الطاقات والموارد من أجل إيجاده، وصولاً إلى "قطاع مسؤولية مجتمعية" فاعل ومؤثر ومنافس.

وليست المسؤولية المجتمعية تبرعاً مقطوعاً تقوم به الشركة في حال حدوث الأزمات أو الكوارث، ولا تجاوباً مع طلبات الدعم التي تصل إليها من هنا وهناك، كما أنها ليست أعمالاً خيرية أو تبرعات فردية يقوم بها الموظفون أو الملاك حينما يرغبون.

إن "المسؤولية المجتمعية" مسار تأثير استراتيجي في قضايا المجتمع، يستهدف تأثيرات بعيدة المدى، ويحتاج إلى موارد مالية منتظمة، وكبيرة، بما يمكّن من بناء الخطط والاستراتيجيات، ويعين على قياس الأثر.

ولكي تنجح المسؤولية المجتمعية في الشركات وتظهر آثارها، ويتحقق المقصود منها، فإن الحاجة ماسة لعدد من الخطوات.

فأولها : موافقة أعلى سلطة في الشركة على تخصيص نسبة مئوية محددة من الأرباح السنوية للشركة لتكون موجهة نحو المسؤولية المجتمعية، وحينها لا يكون الأمر مرتبطاً بقناعات شخصية لبعض الأعضاء أو المديرين، بل نظاماً يتم العمل به في كل الظروف، كما أن تخصيص تلك المبالغ عند صدور القوائم المالية للشركة، يدفع الشركة لتخصيص حساب بنكي مستقل يضمن دفع المسؤولين إلى تنفيذ البرامج المخطط لها.

وأما الثانية، فأن تحدد الشركات مجال تركيزها وتأثيرها المنشود، وتختار القضايا التي ستعمل عليها، والتي يمكن أن تكون ضمن طبيعة ونطاق عمل الشركة وحدود عملها، ويمكن أن تكون خارجة عن اختصاصها التجاري، فيمكن أن تختار الشركات الطبية بالإضافة إلى دورها اليومي الذي تقوم به، أن نتوجه نحو حل بعض المشكلات الصحية الكبرى أو التخفيف منها أو اكتشافها، أو الضخ باتجاه إيجاد تشريعات تحقق حلاً مستداماً يكفل تحقيق ذلك، ويمكن لشركات الكهرباء أن توجد الأدوات المناسبة والحلول التقنية التي تساهم في جعل منازل الفقراء أكثر توفيراً للطاقة، بتأمين بعض المستلزمات، أو تقديم التوعية والإرشادات المناسبة التي تصب في نهاية المطاف في التخفيف من أعباء فواتير الخدمة على تلك الفئة المحتاجة، وعلى هذا يمكن القياس في الشركات الزراعية، والبنوك، وشركات الاتصالات، والنفط وغيرها، ومما يميز هذا النوع من التوجه أنه يمكّن الشركة من العمل في مجال اختصاصها، ويساعد على الاستفادة من موارد الشركة، وطاقاتها البشرية وخبرتها العريقة، وشراكاتها، في تحقيق تلك المسؤولية.

وفي الوقت ذاته يمكن للشركات أن تختار قضايا أخرى – ولو كانت بعيدة عن اختصاصها – لكنها ترى أنها القضايا الأكثر إيلاماً ، أو الأشد حاجة، أو الأنسب للتدخل والمعالجة، فتقرر الشركة أن تكون مساهمتها  - مثلاً – في تحسين جودة الحياة في المناطق التي تعمل فيها، بإنشاء الحدائق، ومضامير المشي، والمعارض العلمية والثقافية، أو تهتم بمنطقة محددة وتسعى لتقديم نموذج يحتذى في مجال من مجالات الاحتياج، أو تعتني بفئة من المعاقين وتعمل على خدمتهم، وتقديم الحلول لهم، والمساعدة في بناء المنظمات التي تخدمهم، والتشريعات التي تخفف عنهم، ويمكن للشركة أن تهتم بالمحافظة عل البيئة، وحلول التدوير للمخلفات، ونشر الوعي في المجتمع، وخدمة الفئات الهشة، او القطاعات التي لا تلقى العناية الكبرى من القطاع العام والقطاع الخاص والقطاع الثالث.

وأما الخطوة الثالثة، فأن تكون تقارير المسؤولية المجتمعية جزءاً لا يتجزأ من العمل، ويتم نشر هذه التقارير الإعلامية ضمن تقرير الشركة السنوي، وتنشر على مواقع الشركة على الإنترنت، وشبكات التواصل، مع الحرص على مشاركة الملاك، وأعضاء مجالس الإدارة، وفريق العمل، ومسئولي القطاع الحكومي في الاطلاع على تلك التقارير، بما يعني تقدير تلك الجهود، ومعرفتها، دون مبالغة أو تضخيم، حيث لا تصنف أعمال المسؤولية المجتمعية ضمن أعمال "الإحسان الفردي" التي يحرص أصحابها على إخفائها فلا تعمل شمال المرء ما تنفق يمينه. 

ولعلي أشير هنا إلى ذريعة يتحدث بها البعض بوصفها سبباً في منع قيام الشركات بدورها تجاه المسؤولية المجتمعية، وهي: انشغال الإدارات التنفيذية في الشركات بالعمل الفني التخصصي للشركة، وعدم وجود أقسام أو موارد بشرية مؤهله في مجال المسؤولية المجتمعية، وأرى أنه لا يلزم إطلاقاً أن يكون لدى كل شركة من الشركات قسماً متخصصاً في ذلك، ولا أن توظف فريق عمل داخلي لهذه المهمة، فهو انشغال بموضوع خارج تخصصها – غالباً – .

و الحل المنطقي والأكثر فعالية وواقعية يكمن في "التعهيد" للغير، فتتعاقد الشركات مع بيوت خبرة متخصصة - ربحية كانت أو غير ربحية-، تستهدف بكل وضوح تحقيق الأثر الفاعل في المجتمع، وتقوم بإجراء الدراسات الكافية لاحتياجات المجتمع، لتحديد الفرص الأولى بالعناية وفق كل مجال، وتعرض تلك الفرص على الشركات بكل شفافية ووضوح، محددة فيها تكلفة المشروع الفعلية، ونسبة الأرباح المنطقية التي يأخذها بيت الخبرة مقابل دوره في بناء المشروع، ومتابعة تنفيذه، ويمكن أن يشترط على بيت الخبرة أن لا يقوم بنفسه بالتنفيذ على الإطلاق ليمارس دوره الحقيقي في القياس والمتابعة والتوجيه.    

  إن وجود بيوت الخبرة هذه، والتزامها بالتميز والجودة في عملها، وقوة المتابعة، واحترافية التقارير، من شأنها أن تدفع الشركات للانطلاق في مسيرة المسؤولية المجتمعية بشكل أكبر، وهي خطوة فعلية في تذليل الصعوبات، وإزالة العقبات، وتحقيق النجاحات، بما يفتح الباب لكثير من الشركات للتحرك الإيجابي في هذا المجال بسبب "عدوى النجاح".

وكلّي أمل بمستقبل مشرق لقطاع المسؤولية المجتمعية في وطني، ليكون أنموذجاً يحتذى إقليمياً وعالمياً، فنحن أهل الإحسان من قبل ومن بعد، ووطننا جدير بهذا التميز الذي يستحقه، خصوصاً حين ندرك أن رؤية السعودية 2030 حرصت على ان تدفع المجتمع نحو النجاح في أكثر من مجال، وجعلت من ضمن أهدافها الاستراتيجية: ( تعزيز قيام الشركات بمسؤولياتها الاجتماعية)..

دمتم بخير ،،،

محمد بن سعد العوشن

22 ذو الحجة 1445 هـ

الرياض حرسها الله


يونيو 21, 2024

مشكلة الاعتياد على النعم

أحد مشكلاتنا المنتشرة على نطاق واسع، و لا نشعر بها: أننا نعتاد على الشيء، فنفقد لذته وطعمه وميزته، ويقل عندنا استشعار النعمة المتحققة من خلاله.

فنحن نأكل الزاد في اليوم مرتين او ثلاثا، و نأكل أثناء اليوم وجبات أخرى متفرقة، ونشرب أنواع المشروبات، ويقضي الواحد منا حاجته بيسر، وينام، ويجد مسكنا يظله عن المطر والهواء و البرد، ويلقى أهله وأصحابه..
ومع ذلك تجد بعضهم تعيسا وحزينا ومكتئبا، شاعرا بعدم السعادة، ينظر للآخرين معتبرا إياهم سعداء بينما هو مسلوب من هذه النعمة، مع أنه في الواقع يملك أنواعا من السعادات التي لا تحصى، غير أنه اعتادها!.وهاهنا سؤال مهم: متى يشعر الواحد بهذه النعم، وبهذه السعادة؟

والجواب: أن عظيم الاستشعار للنعمة إنما يكون حينما يتم افتقادها!.
حيث يدرك المرء حينها أن هذا الشيء الذي كان يعتبر يسيرا واعتياديا ويوميا هو شيء عظيم للغاية.

أرأيت نعمة القدرة على تناول الشراب أو الطعام والتي تبدو اعتيادية ولا يشعر المرء بأهميتها، تأمل في هذه النعمة حينما تزور المستشفى، وترى مريضا يتم إدخال الطعام إلى جسده من خلال أنبوب يدخل في بطنه مباشرة على هيئة سوائل مركزة، حيث لايمكنه أن يأكل الطعام بشكل مباشر، حينها سندرك أن مجرد تناول خبزة قيمتها ربع ريال، وأكلها، ومضغها وابتلاعها بكل سهولة ويسر هي بحد ذاتها نعمة.

والأمر نفسه حين تتأمل في قدرتك على القيام من سريرك ومن مكان جلوسك بنفسك، وقدرتك على الوقوف على قدميك، والتحرك من مكان إلى آخر، وتقارن ذلك بالعاجزين عن هذه الأفعال بسبب المرض أو الحوادث، حينها ستدرك عظيم هذه النعمة.

وحينما تبصر طريقك وأنت تمشي، وترى كل شيء أمامك فأنت في نعمة، وحين تسمع الأصوات المحيطة بك، فأنت في نعمة، وحين تشمّ الروائح فأنت في نعمة..

ولذا لايصح أن أقول أن كل واحد منا يتمتع بمئات النعم بل بآلاف النعم التي يتقلب فيها ليلا ونهارا، لكننا جميعا اعتدنا عليها، وألفناها، فبتنا لا نشعر بأهميتها وللأسف الشديد!.

وأختم حديثي هذا بالوصية لنفسي ولك:
أعد النظر في النعم التي تتمتع بها، وتأملها، واستشعرها، وستدرك الحاجة الماسة للإكثار من حمد الله عزوجل وشكره عليها، ثم ستحسّ بالسعادة تغشاك من جراء هذا الاستشعار المتكرر للنعم المتتالية، "ولئن شكرتم لأزيدنكم".

دمتم بخير.