ديسمبر 26, 2023

الانعتاق

تحدث ابن خلدون -رحمه الله- عن التأثير الواقع على المغلوب من الغالب بحديث عجيب، يصف فيه دواخل النفوس، وطباع البشر، وكأنه يصف حالنا الناس اليوم مع سائر الأمم الغربية، إذ أشار إلى أن "المغلوب" مولع أبداً بالاقتداء بـ "الغالب" في شعاره وزيّه و نحلته وسائر أحواله و عوائده، فالنّفس أبداً تعتقد الكمال فيمن غلبها وانقادت إليه، ولذلك ترى المغلوب يتشبّه أبداً بالغالب.

إن الانعتاق من رقّ الأجنبي، والخروج من الصورة النمطية للمغلوبين يعدّ خطوة مهمة جداً نحو النهضة، ذلك أن المقلّد مهما أبدع وأجاد فإنه يسير تابعاً، ويبقى في الذيل، ولا يمكن للتابع أن يتقدم على المتبوع.

ومن أجل التقدّم على المتبوع، وتجاوز هذه الحالة النفسية، يجب أن نستشعر أن لدينا من الإمكانات، والقدرات، والثقافة، والمرجعيات، والوعي، والأصالة، ما يجعلنا قادرين على أن نقدم للبشرية نموذجاً أفضل وأرقى، نموذجاً يتوافق مع الفطرة التي فطر الله الناس عليها.

إنها حالة من "التعالي المحمود" على تلك المجتمعات المنسلخة عن القيم والمبادئ، تلك المجتمعات التي تعيش مرحلة عظيمة من التيه، وفقدان البوصلة نحو السعادة في الدارين، تلك المجتمعات التي هي أشبه بالمدمن الذي يستمر في كل مرة بأخذ المزيد من جرعات المخدر، لأن المقدار الحالي منها لم يعد كافياً لتحقيق الإشباع، ولذا تراهم يتنقلون في دركات الانحدار القيمي والأخلاقي بشكل مريع وسريع في الوقت ذاته.

لقد تجرّد العالم الغربي اليوم من كل ما جاءت به الأنبياء من تعاليم روحية، وفضائل أخلاقية، ومبادئ إنسانية، وأصبح لا يؤمن إلا بملذاته ومنافعه المادية، وانقلب على الطبيعة الإنسانية، والمبادئ الأخلاقية، واستهان بالغايات و المآلات، ونسي مقصد الحياة، وتمكن منه الشيطان، وحقق فيه وفي من يتّبعه وعوده، وخطته الاستراتيجية، (ولأضلّنهم، ولأمنّينهم، ولآمرنّهم فليبتكن آذان الأنعام، ولآمرنّهم فليغيرنّ خلق الله)، نعم، لقد (استحوذ عليهم الشيطان، فأنساهم ذكر الله)، وكانت النتيجة الحتمية لهذا الإذعان للشيطان: الخسارة الكبرى، (ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون)، (ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا).

إننا بحاجة إلى الوعي بذواتنا، وإدراك مواضع قوتنا، واستشعار أننا وحدنا نتملك مرجعية أصيلة نقية سالمة من التحريف، نحن -فقط- من يمتلك البوصلة الربانية للرشاد والفلاح في الدارين، أما المرتهنون للمبادئ الأرضية، والنظريات والتفسيرات البشرية للحياة والكون، فإنهم في ضلال، إذ هي تفسيرات مبنية على القصور في الإدراك، والقصور في الوعي، والقصور عن معرفة سر النفس البشرية، ودواخلها، ومؤثراتها المترسخة فيها، وهي نظريات مشبعة بالتحيّز للميول الذاتية، والهوى، والمصالح الذاتية، إنها نظريات تفتقر إلى (الدليل الإرشادي) المرسل من الخالق سبحانه، والذي يوضح فيه طبيعة هذا المخلوق، وميوله، واتجاهاته، وما يصلحه، وما يفسده، وهو الدليل الإرشادي الذي لا يمكن العمل إلا من خلاله، وكل تفسير لا يستند إلى هذا الدليل فإنه تفسير قاصر، الخطأ فيه أكثر من الصواب.

إن الحديث عن ضرورة الانعتاق من ذلك الرق، والخروج من حالة التبعية والإعجاب، هو الخطوة الأولى في سبيل النجاح والحرية والتميز والتفوق، ليأتي بعدها فتح مجالات التفكير والإبداع لبناء فكري وثقافي وعلمي وحضاري جديد، منبثق من مرجعياتنا، مستفيد من كل معرفة لدى الآخر غربياً كان أم شرقياً، غير أن الاستفادة في بعض الجوانب ممن هو أقل منك شيءٌ، والاستلاب والنظر إليه بإعجاب وتسليم شيء آخر تماماً، ففي الحالة الأولى نحن في موضع الفحص والتقييم، ثم اتخاذ القرار، وفي الحالة الثانية، نحن في موضع القبول المطلق، والتقدير الكبير.

إننا بحاجة – على سبيل المثال - لإعادة النظر بشكل شامل في أساليب التعليم المتبعة لدينا، وطرائق المناهج، وأنواع التخصصات، وعدد السنوات، وكيفية التعلّم، وتحديد المهارات والمجالات الأولى بالعناية، وفق ما نراه نحن لا وفق ما يرون لنا، ووفق ما نحتاجه فعلياً لا وفق ما يقولون إننا بحاجة إليه، والأمر نفسه يقال في الإعلام، والإدارة، والثقافة، والأدب، والرياضة، وسائر المجالات المجتمعية المختلفة.

لقد التقيت بعدد من الخبراء الأجانب في القطاع غير الربحي، ذوي العيون الزرقاء، وسمعت و قرأت عن مشاريعهم، ووجدت أن كثيراً منها غير متسم بالتميز، ولا بالجودة، غير أنهم أحسنوا توظيف الإعلام في الإعلاء من شانهم، وإيهام الناس أن لديهم مايستحق الاحتذاء والاقتداء، وصدق الناس ذلك!.

وقد وقفت شخصياً على جمعيات إسبانية تمت زيارتها في برنامج زمالة القيادة في المنظمات غير الربحية، فوجدت عملاً عادياً بل اقل من العادي، ثم أجلت النظر في قطاعنا الخيري بالمملكة العربية السعودية، فوجدته يقدم نموذجا حقيقياً على التطوير والتحسين والتجويد والابتكارالمستمر.

لقد آن الأوان  لنا لكي  نتسنّم كرسي الأستاذية للعالم، ذلك أن الغربيين اليوم -وفقاً للحالة المزرية التي وصلت إليها مجتمعاتهم - في حاجة ماسة للتتلمذ على أيدينا، والتعلم منا، واتخاذنا قدوة أخلاقية لهم، فحجم السقوط الذريع الذي وقعوا فيه كبير جداً، وهو انحدار لا يعرف له قاع، يسير الواحد منهم مثل المنكّس لرأسه فلا ينظر أمامه ولا يمينه ولا شماله، فهو حري بالسقوط، والوقوع في الهاوية، (أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أمن يمشي سويا على صراط مستقيم)، وأن لا نصدّق ما يضخمه الإعلام الغربي اليوم من عيوبنا ونقائصنا، ذلك أنه يبصر الشعرة في عيوننا، ويغفل عن الجذع في عيونهم.

وحضارتنا الإسلامية - بطبيعتها- حضارة جاذبة، ذات معانٍ، وقيم، وأصالة يمكن لها أن تنتشر اليوم بذات السرعة التي انتشر بها الإسلام في القرون الأولى، حين بلغ أقاصي الأرض، شريطة أن يتم الرجوع إلى ذات الأخلاق والمنطلقات والقيم التي كان عليها الرعيل الأول، فالعالم الذي يعيش هذا الخواء الروحي الضخم، لا يستطيع الصمود أمام روح الحضارة الإسلامية الناصعة.

وحال تلكم المجتمعات وحالنا، كما قال الشاعر:

ونحن اليوم كالأسرى بـ قيد * وفي يمناك مفتاح القياد

نعم، بيدنا المفتاح - لو أردنا- الذي يمكننا من أن نفتح العالم مجدداً بأخلاقنا وقيمنا ومبادئنا، ومرجعيتنا القائمة على الوحي المطهر، تلك الميزة التي لا يملكها اليوم أحد من العالمين.

دمتم بخير ،،،

محمد بن سعد العوشن

الرياض حرسها الله

14 / 6 / 1445 هـ

ديسمبر 16, 2023

تجربة الفِطام الذاتي!


خاض جميعنا تجربة الفطام من الرضاعة، وكانت تجربة متعبة في بدايتها، غير أنها ممتعة في عاقبتها، وبدلاً من الاكتفاء بمشروب واحد في البكرة والعشي، أصبح المتعرض للفطام قادرا على الأكل من أنواع المأكولات والمشروبات، مستمتعاً بالكثير من النعم.

وحديثي هنا ليس ذلك الفطام، بل عن فطام من نوع آخر، وهو لون من الحرمان الاختياري، والقرار الشخصي بالتوقف عن شيء ما.

ومن المهم لكل من أراد التحكم بذاته، وإدارة نفسه، وسلوكياته، وتحقيق النجاحات الكبرى أن يكون قادراً على فطام النفس عن بعض مشتهياتها متى ما أراد، فلا يكون منساقاً لها دون قيود أو حدود.
وهاهنا يروق لي ذلك البيت من الشعر النبطي :
مايذوق العز خمّام الوسايد * والرجل ماينفعه كثر التمني

والذي يوضح فيه الشاعر أن الاستسلام للملذات، ومنها النوم مثلاً، ليس طريقاً سالكاً نحو العز، والجاه، والمكانة، فتلك الدرجات الرفيعة تتطلب قرارات جريئة بإهمال وترك جملة من الأشياء، واعتزالها.
ولعل من ذلك أن يراجع المرء وقته، ومضيعات الوقت الأكثر تأثيراً عليه، ثم يفطم نفسه عن بعض تلك المضيّعات زمناً، ليكسر حاجز الاعتياد والتعلق.

ومن نماذج ذلك في مجال الأجهزة الذكية: أن يحذف الواحد منا (بعض) التطبيقات التي وجد أنه بات يمضي عليها (الكثير) من الوقت دون جدوى، والتي أصبحت تؤثر على أهدافه الأخرى، ومستوى إنتاجيته، وكل واحد منا أدرى بالتطبيق الذي يستغرق عليه أوقاتاً طويلة، حتى ولو كان ذلك الحذف مؤقتاً بأيام أو أسابيع، ذلك أن الانقطاع حيناً يورث تقليل الإدمان دون شك.

ومن الفطام المحمود، فطام النفس عن اعتياداتها السلبية، كاعتياد النوم الكثير، والكسل الذهني والجسدي، واعتياد الراحة، والخلود إلى سلوك الانزواء وعدم الفاعلية والرضى بالدون في كل مجالات الحياة.

ومن ذلك فطام النفس عن أصحاب الهمم الدنيئة، والاهتمامات السطحية، واتخاذ القرارات الحاسمة بتقليل الوقت المخصص للجلوس معهم إلى أضيق ما يمكن.  
وفي ذلك كله يصدق قول الشاعر :
والنفس كالطفل إن تتركه شبّ على * حبّ الرضاع، وإن تفطمهُ ينفطِـمِ

ولست أنسى الإشارة إلى لون آخر من ألوان الفطام ، لا يقل أهمية عن سابقه، وهو فطام يمنحنا متعة الحياة، ويجعلنا نسعد بها دوماً، وهو فطام النفس عن مواصلة الانغماس في محبوباتها المباحة، إذ الواجب المحافظة على عدم التشبع التام من تلك المتع التي نحبها، فإن الإكثار منها سبب للملل منها، والعزوف عنها، والهدف من عدم الاسترسال في تلك المتع أن تبقى متعة ممارستها، ولا تزول عنا لحظات انتظارها، والشوق إليها.

فمتعة السفر– مثلاً- والتي يعدّها الناس أحد أفضل المتع، ويبذلون لها الأوقات والأموال، حينما تكثر وتزداد في حياة المرء، ويغمر بها كل الأوقات، ويتواصل تكرارها بشكل متتال، فإن ذلك سيؤدي  - دون شك -  إلى فقدان مشاعر البهجة، والمتعة، والترقب، حينما تقرر سفراً آخر، وسيقل شعورك بتفاصيل الرحلة، من المطار، إلى الطائرة، إلى الإقلاع والهبوط، إلى لحظات الاستكشاف لأول مرة، ورهبة البدايات، وغيرها من المتع التفصيلية للأسفار، وستنخفض كثيراً متعة السفر وحبه وانتظاره، ويتحول إلى روتين غير مثير للسرور.

والأمر ذاته حينما نتحدث عن (متعة التسوق) فالذين يشترون كل ما تطمح إليه نفوسهم، أو يأكلون كلما تشتهيه أجسادهم دون تردد لمجرد قدرتهم المالية على الشراء، فإنهم سيشعرون بالتشبّع بتلك المتعة، لدرجة الملل منها، فاستمرار المرء في إشباع رغباته دون توقف، يجعل تلك الرغبات تبلى وتذبل، ويجعل تلك المتع تزول لذتها، فيصبح تحقيق السعادات الصغيرة أمراً غير يسير.
والناجحون والسعداء لديهم القدرة العالية على تحمل تأجيل إشباع الحاجات، وتباعد أوقاتها، والتوازن في التعامل معها، لأنهم ينظرون إلى مشهد الحياة ككل، وليس إلى اللحظة الحاضرة فحسب، ويخططون للمحافظة على رونق تلك المتع المختلفة، ويدركون أنه كلما استزاد الإنسان من المتع المادية المحسوسة تراجعت درجة استمتاعه بها.
ومن العجائب أن ذلك الأمر لا ينطبق إطلاقاً على المتع الروحية، فإن زيادتها تؤدي إلى مزيد من التأثير الإيجابي الذي تحدثه، والاستغراق فيها يزيدها بهاء، فتزداد مشاعر البهجة في كل مرة، فالأشخاص المهتمون بإرواء أرواحهم، وإشباعها، من خلال الدعاء، والصلاة، والأذكار، وتلاوة القرآن، والإحسان إلى الناس، وفعل المعروف يكونون أقدر على التغلب على التوتر والأمراض البدنية، ويكونون أكثر سعادة وسروراً حتى ولو كانت المتع الجسدية لديهم منخفضة للغاية.

والحديث عن الفطام برمته يأتي استجابة للأوامر والنصوص الكثيرة الداعية إلى الاعتدال في كل شيء، والاتزان في كل شيء، كما في حديث النبي ﷺ : (حسْبُ ابنِ آدمَ أُكلاتٌ يُقمْنَ صلبَه فإن كان لا محالةَ فثُلثٌ لطعامِه وثلثٌ لشرابِه وثلثٌ لنفسِ) ، وقوله ﷺ : (الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني)، ويتوافق مع المقولة الشهيرة لعمر بن الخطاب رضي الله عنه : "اخشوشنوا، فإن النعم لا تدوم"

محمد بن سعد العوشن
3 /  6 / 1445  هـ
الرياض 
حرسها الله

ديسمبر 16, 2023

التخطيط الاستراتيجي و كسـر الصندوق

حينما استمعت إلى أمين عام اللجنة الإستراتيجية في مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية (الجهة التي تولت إصدار وثيقة رؤية المملكة 2030)، وهو يتحدث عن كواليس ولادة الرؤية، وكيف أن العمل في إعدادها كان خارج المألوف والمعتاد في أسلوب العمل الحكومي، أدركت عن كثب، كيف يمكن تحقيق النجاح في التخطيط الاستراتيجي.

ومن هنا وددت أن أسجّل جملة من الدروس المستفادة من هذه الرحلة، لتكون أنموذجاً للعمل في مشروعاتنا، ومنظماتنا على اختلاف تخصصاتها حينما ترغب في إحداث أثر فاعل، وتغيير جوهري.

الدرس الأول: أهمية العمل التشاركي في بناء الخطة، فالعمل في الخطة الاستراتيجية لم يكن مسؤولية جهة واحدة (الجهة المعنية بإدارة الخطة مثلاً)، بل كان مسؤولية الجميع، وكان العمل على الاستراتيجية بإشراف مباشر، ومتابعة مستمرة من رأس الهرم، فيحضر، ويستمع، ويناقش، ويطرح. 

الدرس الثاني: أهمية أن تحلم عند بناء الخطة بلا سقف، وأن تخطط بلا حدود تمنعك من التفكير، وأن تعمل وطموحك عنان السماء. ذلك أنك حينما ترفع سقف أحلامك، وتقرر المضي قدماً إلى أماكن ومساحات عمل جديدة، وغير مألوفة، فقد تنجح، وقد تخفق، وهو الأمر نفسه لو اخترت المضي إلى أماكن وأساليب وأدوات تقليدية ومعتادة، فاحتمالية النجاح والفشل قائمة في كليهما، غير أن اتخاذ القرار الجريء بالسير قدماً نحو الأحلام العظيمة، يقود غالباً إلى تحقيقها أو تحقيق جزء منها، وهو ما يعدّ نجاحاً غير اعتيادي. وتذكرت حينها المقولة الشهيرة لـ پي تي بارنم: "ليكنْ طُموحك الوصول للقمر، حتى وإن لم تبلغه فمكانك بين النجوم".

الدرس الثالث: أهمية حشد العقول المتميزة لإنتاج خطة متميزة، فذلك الحشد يعدّ من عوامل النجاح الكبرى، فإحسان اختيار المواهب والطاقات، والتكشيف عنها، وتوظيفها، وإطلاق العنان لتلك العقول لتفكّر، وتخطط، وتبتكر، وتحلم، يجعلك تحصد نتاجاً مختلفاً، وأفكاراً نوعيّة، ومقترحات خلاّقة.

الدرس الرابع: أن النتيجة المنشودة لهذا الجهد الكبير، هو خارطة طريق للمستقبل، وأن تكون نتيجتها رؤية (نجمية) بعيدة المنال، وهدفاً مختلفاً كلياً يتم السعي إليه، ومحاولة تحقيقه، فلا يصلح ان تكون خاتمة هذا العمل الدؤوب والمنظّم، والجهد المتواصل، والمركّز، مجرد خطة استراتيجية محددة بسنوات قليلة.

الدرس الخامس: أهمية متابعة العمل على تنفيذ الخطة، فبينما تثبت الدراسات أن كثيراً من الخطط الاستراتيجية تفشل حينما تنتقل من التنظير إلى التطبيق، فإن الخطوة التي تم اتخاذها في النموذج المشار إليه قد اتخذ خطوة مهمة لضمان عدم الوقوع في ذلك، من خلال إنشاء مكتب مستقل لإدارة الاستراتيجية، يشرف ويتابع ويقدم تقاريره بشكل متتابع، وأفرز ذلك عن إطلاق برامج كبرى، ومستهدفات محددة لكل الجهات، وتجمعاً لكل القطاعات والجهات المتشاركة في الهدف، وتحول واقع العمل  من كونه (جزراً مستقلة) تعمل كل واحدة منها بمفردها، إلى (العمل المشترك) فالجميع يعمل مع الجميع لتحقيق مستهدفات الجميع، لقد كان العمل استراتيجياً في التخطيط، وإبداعياً في التنفيذ.

الدرس السادس: أن الخطة الناجحة ليست تخص جزءاً من المنظمة، من خلال إدراك أن المسؤولية عنها ليست مهمة (جزء) من المنظمة تسعى، وتحاول، وتبذل قصارى جهدها، بينما يكتفي البقية بالجلوس على مقاعد المتفرجين، كلا، فهي مسؤولية المنظمة برمتها، وتشعر جميع الإدارات والجهات المختلفة بأنها شريكة في هذه الخطة الاستراتيجية، وأن عليها جزءاً من المسؤولية نحو تحقيقها وفقاً لطبيعة اختصاصها، وحجم تقاطعها مع مستهدفاتها.

الدرس السابع: أن الخطة الناجحة ليست نخبوية، فيجب الحشد والترويج لها، والتوعية بها، ذلك أنها خطة الجميع، وهو ما يجعلها على لسان كل أحد، ويجعل مفرداتها محل حديث جميع أصحاب المصلحة والمستفيدين الداخليين والخارجيين، ويكون ذلك الحشد سبباً في دفع الجميع لتبنيها، وسعيهم للتوافق معها، فتصبح محل عناية الجميع، ومعرفة الجميع،

الدرس الثامن: أن الخطة الناجحة هي التي يتم تبنيها من أعلى سلطة تنظيمية، فتتحدث عنها القيادة العليا بكل فخر، وتبشر بها، وتعلن التبني الكامل لها، والثقة الكبيرة في تحقيقها، وإيضاح أنها ستكون مسار العمل للجميع دون استثناء، فذلك أقوى طاقة يمكن بثها في عروق الخطة لتنمو وتكبر وتتحقق.

الدرس التاسع: أن الخطة الاستراتيجية الناجحة عي التي تغيّر ثقافة المنظمة ، ولذا في نموذج الرؤية 2030م شاعت مفاهيم ومصطلحات كثيرة عل  السنة الجميع، وأصبحت مفردات مثل (المجتمع الحيوي، والاقتصاد المزدهر، والوطن الطموح، والمكانة الدولية والمؤثرة، وتنويع مصادر الدخل، وبرامج الإسكان، والقدرات البشرية، والخدمات اللوجستية، وجودة الحياة، والحوكمة، والتطوع، والعمل التنموي، والاستدامة) متداولة وشائعة، فأسهمت الرؤية في ذيوعها، والتوعية بها، وكذلك كل رؤية استراتيجية لمنظمة، يجب أن تستطيع نشر وإشاعة المصطلحات الحديثة المرتبطة بها، وتثبيتها في نفوس الجميع.

و ختاماً: فإنني أدعو نفسي وأدعو كل قارئ، إلى أن تكون هممنا وخططنا طموحة دوماً، وأن تكون أعلى وأفضل من واقعنا الذي نعيشه، وأن نردد قول الشاعر :

إذا غامرت في شرفٍ مروم * فلا تقنع بما دون النجوم

نعم، نحن بحاجة إلى الخروج من الصناديق التي وضعناها لأنفسنا، بل كسرها، وتجاوز الحدود التي قيّدنا بها طموحاتنا.

نحن بحاجة إلى خطط شخصية، ومؤسساتية، تحمل في جعبتها أهدافاً تشكّل تحدياً فعلياً لقدراتنا وإمكاناتنا، بما يدفعنا لبذل المزيد من الجهود من أجل تحقيقها، ولو كان في ذلك شيء من المشقة المؤقتة لأجسادنا

وإذا كانت النفوسُ كباراً * تعبت في مرادها الأجسامُ

وبمثل تلك الخطط الطموحة، والعملية، والتشاركية، يمكننا الصعود إلى أعلى القمم، وتحقيق أكبر النجاحات.

دمتم بخير ،،،

محمد بن سعد العوشن

الرياض - حرسها الله -

23 / 5 / 1445هـ

ديسمبر 05, 2023

الاستثمار في الأعمال الخيرية

       يحرص الكثير من المستثمرين الهادفين للربح المحض لتحديد شريحة المستهدفين لديه، وينتقيهم بعناية، وهو ما يعين على تحقيق المزيد من الأرباح نتيجة التخصص.
 وقد وجد بعض أولئك المستثمرين أن العمل مع الجمعيات الخيرية أو مع فاعلي الخير يحقق لهم بغيتهم ومقصودهم الربحي بامتياز، لأن ذلك القطاع بحاجة إلى شراء الكثير من المنتجات والخدمات .
وترى الكثير من أولئك يقدمون الخدمات للقطاع بسعر السوق أو زيادة، وبجودة السوق أو أقل، وهم في ترويجهم لمنتجاتهم وأعمالهم لا يكلّون من استخدام النصوص الشرعية لحث الناس على التعاقد معهم!.

        فتراهم يتحدثون عن فضل سقيا الماء وماورد فيه من الأجور، ويتحولون إلى واعظ في شأن السقيا، لا لشيء إلا لأنهم يبيعون كراتين المياه المعبأة، ويوصلونها للمساجد أو لغيرها من الأماكن التي يريدها المتبرعون أفراداً أو مؤسسات.

         وتراهم كذلك يتحدثون عن أهمية العناية بالعمال المساكين الذين يعانون من البرد الشديد القارس، لأنهم في الواقع يسوّقون للحقيبة التي أسموها (كسوة الشتاء)، والأمر نفسه يقال عن إطعام الطعام، وتوزيع السلال، والتمور..

        ولأن العمل تجاري صرف، فإنهم لا يقومون هم أو كثير ممن يتعامل معهم بالتدقيق في مجال جودة المنتج، وفائدته للمستفيد النهائي، ومدى الحاجة الفعلية إليه، والأمر نفسه يقال عن الكثير من الخدمات التي يحرصون على التكسّب من خلال بيعها باسم البحث عن الخير وابتغاء الأجر.

        ومن الطريف كذلك أن ترى ذلك المستثمرالتجاري يتحدث بين الحين والآخر عن دوره الكبير في (العمل الخيري)، وحرصه عليه، وإنجازاته في توزيع أكبر عدد ممكن من سلعته باسم (الخير).

      وربما سعى للحصول على المزيد من العقود باعتباره أولى من غيره، لأنه من (رجال العمل الخيري) – على حدّ زعمه- مع أنه في هذه الحالة ليس سوى أحد المستفيدين من العمل الخيري، المتكسّبين منه، وهو مقدم خدمة ليس غير، هدفه الرئيسي تحقيق الربح المالي، وتأتي باقي الأهداف الأخرى – إن وجدت – تبعاً لذلك الهدف.

       لذا تراه لا يتغاضى عن أي شيء من الأرباح لصالح العمل الخيري، ولا يقبل بتأخير شيء من الدفعات، بل ولا يكلف نفسه بذل مزيد من الخدمة من حيث النوع أو الكم أكثر مما هو متفق عليه، فضلاً عن أن يتبرع بجزء من موارده للمشروع الذي يقدّم المواعظ الناس بشأنه.

     إن قيام رجل الأعمال بتحديد مجال عمله في خدمة قطاع ما، لا يجعله بالضرورة من رجالات ذلك القطاع، ويجب ألا يعتبر جهده التجاري ذاك عملاً تطوعياً يفاخر به، بل هو عمل تجاري صرف، فالمقاول الذي جعل اختصاصه بناء المساجد، أو الشركة التي تخصصت في إنتاج البرمجيات التعليمية، أو إصدار المواد الإعلامية الهادفة، أو تجهيز الاستوديوهات للمؤسسات غير الربحية، كل أولئك (رجال أعمال) يبحثون عن الربح الخالص وقد وجدوه هناك.

         ومن الخطأ أن نتعامل معهم كما نتعامل مع منظمات القطاع الخيري، من حيث مبدأ التجاوز وعدم التدقيق، وقبول المتاح، واعتبارهم محتسبين في خدمة العمل، ذلك أن أولئك المستثمرين حينما يكون الأمر مرتبطاً بحقوقهم ومصالحهم -عند التعاقد- فإنك تراهم تجاريين جداً ، ودقيقين جداً، فإذا جاء وقت الاستلام منهم، ومراجعة أعمالهم، لبسوا لباس التطوع والعمل الخيري، مطالبين بالمراعاة والتسهيل.

        إنك حين تقدّم الخدمة بشكل تطوعي صرف  لا تبتغي منها جزاءا ولا شكورا، فإنه ينطبق عليك قول الله تعالى ( ما على المحسنين من سبيل)، فعملك مشكور، وسعيك محمود، وبذلك للوسع كاف تماماً.

       أما حين تقدّم تلك الخدمة بمقابل مادي تكسب من خلاله، فإن الأمر مختلف كلياً، ويعتبر إخلالك بالعمل أو تقصيرك فيه مرتبطاً بأكل الأموال بالباطل.

        وما من شك أن احتساب الأجر في كل عمل يقوم به الإنسان أمر محمود، حتى ولو كان أمراً دنيوياً صرفاً، لكن ذلك شيء بين المرء وبين الله، لا يمكن الاطلاع عليه، ولا الاستيثاق منه، لأن محله القلب، ودعوى الاحتساب فيه غير كافية لقبول الإخلال بالأعمال والعقود، أو المطالبة بما هو غير مستحق، وخصوصاً حين يكون المال مال الله، ناتج عن تبرعات الناس وصدقاتهم، فإن التحرز فيه يجب أن يكون عالياً ، وأن يأخذ المرء فيه بالعزيمة لا بالرخصة، فـ (كل جسد نبت من سحت؛ فالنار أولى به).  

        وحديثي هذا عن المستثمرين هو حديث عن عدد غير قليل،  وإن كانت الوقائع تثبت قيام (بعض) أولئك، بإطلاق مشروعاتهم الخيرية الخاصة في مجال تخصصهم، وبذلهم في ذلك من مالهم الخاص، وهو أمر يذكر فيشكر.

        كما أنني لا أشك أن الكثير من الجمعيات العاملة في القطاع حريصة دوماً على الحصول على أفضل المنتجات، بأفضل الأسعار المتاحة، إدراكاً منهم للمسؤولية الملقاة على عواتقهم تجاه هذا المجال، وتجاه المستفيدين، وتجاه المتبرعين كذلك.

        جعلنا الله وإياكم من المباركين، ومن المتورعين عن أخذ ما فيه شبهة، فضلاً عما لا يحل، وجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم.

        دمتم بخير ،،،

محمد بن سعد العوشن

21 - 5 - 1445 هـ

الرياض (حرسها الله)