مارس 21, 2023

ظاهرة الإذعان للسائد!

أيدي مقيّدة

في بحث ميداني معمّق أجراه عالم الأوبئة الاسكوتلندي "آرشي كوكرين" حول مدى أهمية بقاء المرضى في وحدات العناية بالشريان التاجي بالمستشفيات، والفرق بينها وبين وجود المريض فترة النقاهة في المنزل تحت رعاية منزلية طبية، وجد أن وحدات العناية بالمستشفيات أكثر خطورة على المريض، وأن البقاء في المنزل هو الأكثر أماناً، وهو ما يخالف السائد لدى كافة العاملين في الحقل الطبي!

وقد تحدث "كوكرين" عن جملة من الممارسات السائدة في الحقل الطبي  والتي اكتشف لاحقاً  - بعد الكثير من اللوم للمشككين - أن جملة من تلك المسلمات لدى الناس، بل وربما لدى المتخصصين: غير صحيحة!

وأياً كان موقفك من النتيجة التي توصل إليها كوكرين، فالأمر لا يهمّ، إذ العبرة هنا بالمثال الذي يؤكد على أن التسليم بالأساليب المعمول بها لمجرد أنها "سائدة ومتوارثة ومستمرة" غير صحيح، وأن التوقف عن اختبار الأدوات والأساليب ليس سلوكاً صحياً.

وفي الكثير من مجالات الحياة، اعتاد الناس على طرائق وآليات وأساليب للعمل، شاب عليها الصغير، وباتت في حكم المسلمات والقطعيات، للدرجة التي لم يصبح هناك من يعترض عليها، أو يشكك فيها، بل أصبح الحديث عنها بالتشكيك لون من ألوان النيل من المقدسات!.

وفي كتابه  (تكيّف)، أشار "تيم هارفرد" إلى نموذج آخر للفكرة ذاتها، وهي فكرة التسليم بالموجود، وأشار إلى أحد التطبيقات في العمل الإنساني بأفريقيا، حيث قامت إحدى الجهات غير الربحية بتطبيق أسلوب جديد لاستخراج الماء، ثم انتشر العمل به على نطاق واسع، وكانت خلاصته: أن يتم استخراج الماء من خلال مضخة مبنية على أسلوب اللعب، بحيث يدور الأطفال بشكل مستمر باسطوانة تحيط بالبئر "دوامة"، ويلهون بها، وتساهم كل دورة بهذه اللعبة في استخراج كمية من المياه من البئر، وأشار المؤلف إلى الرواج الإعلامي الكبير لهذه الفكرة، وأنها - من النظرة الأولى عن بعد - كانت فكرة رائعة من حيث الشكل العام، حيث تجمع بين إيجاد مكان للهو، مع تحقيق فائدة للمجتمع المحلي، وأكدت ذلك الصور الفوتوغرافية الملتقطة للأطفال وهم يلعبون ويتضاحكون، والماء يخرج من باطن الأرض، ولاعجب حينها أن يقوم البنك الدولي يمنح جائزة لهذه الفكرة المبتكرة؛ غير أنه حين قام باحثون استقصائيون بدراسة الفكرة، والالتقاء بالأهالي، و الأطفال في مواقع تركيب تلك المضخات، والاستماع إليهم، وجدوا أنها محل سخط وشكوى، وان تلك المضخات باتت نقطة ألم لهم، وأن هذه الفكرة ليس عملية مقارنة بالمضخة اليدوية الاعتيادية، ذلك أن تمضية الوقت الطويل في هذه اللعبة الدائرية غير محبب للأطفال، وهو لون من ألوان العمل الشاق، الذي يضطر الكبار لفعله لاستخراج الماء حيث لا يتاح الأطفال في كل وقت، ولا يمكن الاعتماد عليهم في مهمة حياتية كهذه! 

ولعل الخلاصة التي توصل إليها أولئك الباحثون، والتي نكررها هنا: يجب أن لا نسلم بصحة الأدوات والأساليب المستخدمة، ولا ننساق وراء التسويق الإعلامية لها، بل يكون الحس النقدي حاضراً ، وبشكل مستمر. 

وهو ما يدفعنا إلى دراسة مدى فاعلية الأساليب والأدوات والبرامج والمشاريع المنفذة في كل مجالات العمل الخيري لدينا، ودراسة كل مشروع اعتدنا على فعله، أو رأينا الآخرين يصنعونه، وذلك للتأكد من أننا على الطريق الصحيح، وأن هذا النشاط يحقق  - فعليا - الهدف من إطلاقه، وأنه ليس هناك خيارات أخرى أقل تكلفة أو أعظم أثراً او أقل سلبيات منه، نحن بحاجة إلى التأكد من كفاءة الإنفاق، وأن المال والوقت والجهد المبذول على هذا المشروع يستحق ذلك  أكثر، وهنا يجب أن نعتمد على معلومات حقيقية واستقصاء فعلي وتتبع، لا على مجرد الظنون، والقصص، والانطباعات الذهنية الأولية.

فنحن اليوم في مسعانا لتخفيف الفقر، وإغاثة الفقراء - على سبيل المثال - نمارس مجموعة من الأنشطة التي اعتدنا عليها ( سلال غذائية، ترميم منازل، سداد إيجارات، سداد فواتير، كسوة الشتاء، كسوة العيد، الحقيبة المدرسية، البطانيات، الأجهزة الكهربائية ...) دون ان نقيس مدى الحاجة الفعلية لتلك الأنشطة، ولا الأثر الناتج عنها، ولا رأي الفقير بشأنها، ولم نقم - في الكثير من الأحيان- بالسؤال عن البدائل الأكثر جدوى، أو الأقل تكلفة، أو الأكثر استدامة.

وفي السياق ذاته، هل كان لدورات اللغة الإنجليزية، و دورات الحاسب الآلي التي تقدمها الجمعيات لأبناء الأسر الفقيرة أثر كبير وفاعل، وهل غيّرت من مستوياتهم أو فرصهم الوظيفية؟ وهل كان امتلاك الجمعيات أصلاً لمراكز تدريبية يعدّ أمراً حسناً وإيجابياً؟ هل كانت خطوة في الاتجاه الصحيح، أما أنها إنفاق للمال في غير وجهه؟

ليس لدي إجابة على هذه التساؤلات، ولم أتخذ موقفاً نهائياً منها، لكنني أرى إخضاع ( كل ) أعمالنا وأنشطتنا للمراجعة والقياس، وأن يكون ذلك من جهات مستقلة تماماً لا مصلحة لها في بقاء تلك الأنشطة أو زوالها، ومن شأن تلك التقييمات المستقلة والمحايدة أن تجوّد العمل، وتصوّبه، وتجعله أكثر كفاءة وفاعلية، وقد تكون نتائج تلك التقييمات أن نزيد من بعض الأنشطة، ونقلل من بعضها، وأن نعدل على بعضها، وأن نلغي البعض الآخر بكل شجاعة.

إن الإبقاء على الحلول المكررة، والسائدة لمجرد ذيوع العمل بها أمر غير مقبول، والتخوّف من التغيير، والخشية من ردّات الفعل من شانها أن تجعلنا نسخاً مكررة لأعمال لم يثبت جدواها بشكل فعلي.

ولأن أخذتنا الأمثلة إلى جمعيات البر، فإن الحديث ذاته يقال عن بقية الجمعيات، وبقية الأنشطة، في شتى المجالات، إذ أن إخضاعها للنقد والتقييم، وعدم التسليم بتلك الممارسات البشرية أمر مهم، خصوصاً حين ندرك – مع الوقت – أن جملة منها لم تكن أو لم تعد تجدي، وحينها نشعر بالأسى لتلك القدسية التي ألقيناها على تلك الأعمال بينما لم تكن تستحق ذلك..

ويجب ألا تكون الممارسة، او الذيوع والانتشار حجاباً عن التقييم والنقد البناء.

دمتم بكل خير .

محمد بن سعد العوشن

20 / 3 / 2023  

(الرياض) حرسها الله




#تطوير #التطوير #العمل_الخيري #القطاع الثالث #غير_الربحي #الذات #التفكير #القراءة #كتاب

مارس 15, 2023

اندماج منصات التبرع الثلاث



بين فينة وأخرى، يتسامع الناس باندماجات واستحواذات في القطاع الخاص، تتعاظم الحصة السوقية بموجبها للشركة الدامجة، فتستحوذ بموجب ذلك على عدد أكبر من العملاء، والفروع، والأنشطة، ونقاط البيع، والتقنيات، والوصول.

ويفسّر الاندماج بأنه ( ضمّ منشأة أو أكثر إلى منشأة أخرى، مما يجعل الجميع منشأة واحدة، مما يؤدي إلى زوال الشخصية المعنوية للمنشأة أو المنشآت المنظمّة، وبالتالي تنتقل الأصول والحقوق إلى المنشأة الضامّة).

ولأن هذا البلد بلد معطاء، باذل للخير، حكومة وشعباً، فقد انطلقت جملة من منصات التبرع الإلكتروني الرسمية، لتغطي جزءاً من احتياجات المجتمع، وتسابق الناس للاستفادة منها للموثوقية العالية التي تحظى بها.

ويتداول الناس في المجالس اليوم حديثاً وإلماحات عن منصات التبرع الرسمية الرائعة (إحسان – تبرع – وقفي ) وأن هناك مشروعاً قيد الدراسة حول اندماج تلك المنصات كلها في منصة واحدة تحت إدارة واحدة، أياً كنت الجهة المشرفة على المنصة.

ولا شك أن للاندماج عموماً، وفي هذه الحالة خصوصاً فوائد ومزايا، غير أن له عيوباً ومثالب كذلك، والأمر نفسه يقال عن عدم الاندماج.

ومن هنا فإنني أتقدم بمقترح توفيقي يكفل جمع مزايا الخيارين معاً، ويقلل من العيوب قدر الإمكان، وهو مقترح يمكن عقد الورش ومجموعات التركيز المتخصصة لإنضاجه وتجلية تفاصيله.

والمقترح يقضي بأن تكون هناك منصّة واحد فعلاً للتبرع، بحيث يقصدها المتبرع، ولا يحتاج إلى التنقل بين تلك المنصات المختلفة، وفي الوقت ذاته تكون هذه المنصة الموحّدة ذات تبويبات رئيسة هي ذاتها مسميات المنصات المشار إليها سلفاً (إحسان – تبرع – وقفي)، وتتم إدارة كل تبويب من تبويبات المنصّة، ومتابعته، والتسويق له من قبل الجهة التي تدير تلك المنصة حالياً، ويسعى لاستكمال وتطوير العمل فيه..

وفي الوقت نفسه يكون هناك إدارة مركزية للمنصة، فيما يتعلق بالأمن السيبراني، وفي تسجيل وإدارة الجمعيات الخيرية الراغبة في عرض مشروعاتها على المنصة، وفي إدارة المتبرعين، وكبار المتبرعين، وإدارة المنصة بشكل عام.

وفي هذا الاجتماع تحت منصة واحدة تحقيق مجموعة من المصالح، والتي منها: سهولة الدخول والتبرع للمحسنين، ورؤية المتبرعين لكل الفرص المتاحة في شتى المجالات ولدى شتى الجهات.

كما أن من شأن التواجد في منصة واحدة أن ييسر ظهور مشاريع كل جمعية على حدة وإن تعددت مجالات عملها، فيكون الزائر على وعي بحجم وعدد ومبالغ المشاريع المعلنة والمدعومة للجهة الواحدة، مما يجعله يوجّه تبرّعه للجهات والمناطق الأقل دعماً والأكثر حاجة -إن شاء -.

ومن شأن التوحيد كذلك أن يكفّل وجود معايير موحّدة للجهات الراغبة في الانضمام إلى المنصّة مما يعني إمكانية رفع المعايير، وضبط الجودة، وسوف تقوم الجمعيات بالاستجابة لتلك المعايير لأنها تتيح لها الظهور والوصول للمتبرع بيسر وسهولة.

ومن المزايا في المنصة الموحّدة أنها تجعل عمليات التسويق والإعلان لها ذات جدوى أكبر، فبدلاً من بضع حملات تسويقية متفرّدة لكل منصّة، يكون التسويق جماعياً وتستفيد من الحملة كافة الجهات والمجالات.

وحديثي هنا كلّه عن المنصات الرسمية الثلاث، أما المتاجر الإلكترونية للجمعيات الخيرية، فإنني لا أرى أن يتم دمجها، ولا جمعها، بل تبقى مرتبطة بكل جهة خيرية، تستهدف شرائح من الداعمين، وفئات من المحتاجين لخدماتها.

وإنّي على ثقة بأن هذا الحل الوسيط لمنصات التبرعات الرسمية سيكون بين الرأي القائل بإغلاق المنصات، والرأي القائل بترك كل منصة تعمل بمفردها، وسيدعو هذا الحل - في الوقت ذاته -  للتنافس بين تبويبات المنصة، مما يساهم في زيادة حجم التبرعات النهائي.

أما منصّات التبرع المتخصصة كـ شفاء ، وجود، وأمثالها، فلست أرى دمجها مع أي منصة قائمة، فلكل منصة أسلوب عمل مختلف، ووجودها مستقلة أمر مهم يخدم القطاع، وسوف أتحدث عنها في تدوينة قادمة بإذن الله.

سائلاً الله تعالى أن يسدد الخطى، ويبارك في الجهود.

دمتم بخير ،،،

محمد بن سعد العوشن

مهتم بتطوير الذات والعمل الخيري


مارس 06, 2023

دراسة الجدوى "الخيرية"

غلاف دراسة جدوى

يتوهم البعض أن المشروع "غير الربحي" يكتسب مشروعية إقامته من مجرد كونه "خيرياً" أي أنه لا يحقق أرباحاً للقائمين عليه، وأن كونه غير ربحي فحسب، كاف في إقامته، ودعمه، والتوقف عن نقده او الاعتراض على جدواه.

مع أن الواقع أن المشروع الخيري أو غير الربحي هو مشروع ذا مسئولية أكبر، فالمال فيه مال الله، وهو ناتج عن تبرعات المحسنين، والهدف منه مرضاة الله، وهي أمور تجعل من الجدير أن تتم دراسة جدواه بشكل مدقق وتفصيلي، ولأن كانت أرباح المشروعات التجارية هي أموال يجنيها أصحاب المشروع فتدخل إلى جيوبهم، فإن المشروع الخيري أرباحه هي المزيد من الحسنات المترتبة على بذل الجهد من جهة، وتحقق الثمار من جهة أخرى، إذا تم إحسان الاختيار للمشروع.

ومن هنا كان من المهم التحقق أولاً من طبيعة المشروع الذي نرغب في إطلاقه، خصوصاً حين تكون موارده المالية من أموال الآخرين الذين يريدون بإنفاقها ابتغاء ما عند الله، أما لو كان المال الذي يتم إنفاقه هو من مال صاحب المشروع الخاص فإن الأمر سيكون أيسر بكثير.

ولهذا يعدّ قيام المستثمر بماله الخاص بالدخول في ألوان من المغامرات التجارية، ودخوله في الاستثمارات الجريئة شأن يخصه، ويحق له الدخول في استثمارات مدروسة او غير مدروسة، أما المستثمر تجارياً بأموال الآخرين، فإنه الواجب عليه الحذر الشديد، والاتزان، والعمل بالاحتياط، والتوقف عن المغامرة بأموالهم، والأمر ذاته يقال عن إطلاق المشروعات غير الربحية بالمال الخاص أو مال الآخرين. 

وفحص المشروعات غير الربحية، والاستشارة فيها، وعرضها على أهل الاختصاص، وإنضاجها، ودراسة السوق والتجارب المشابهة، والاستيثاق من رغبات المستفيدين واحتياجهم، أمر في غاية الأهمية، كما أن الاقتصاد في الإنفاق، والبحث عن أساليب التوفير، وضبط المصروفات، وعدم التوسع فيها، كل ذلك أمر واجب.

وإنني هنا أدعو إلى التنادي من أجل وضع المعايير، والنقاط، والأسئلة والمرتكزات التي لابد من السؤال عنها، والتحقق منها بما يجلّي الصورة، ويوضح المشروعية، ويوصل إلى نموذج ميسّر يسهل على الراغبين في إطلاق مشروعاتهم غير الربحية إجراء ذلك التقييم الذاتي، والذي يتم بناء عليه اتخاذ القرار، بالإقدام عليه أو بالإحجام.

وما أجمل أن يتم اتخاذ القرار بإلغاء فكرة المشروع الذي تثبت الدراسة عدم جدواه، حتى وإن تم دفع التكاليف الأولية للدراسة، وإنفاق بعض الأموال في الدراسة والتصاميم، فالعودة من أول الطريق أنسب وأوفر.

دمتم بخير ،،،


محمد بن سعد العوشن

مهتم بتطوير الذات والعمل الخيري

@bin_oshan