فبراير 28, 2023

نحو تقليل التشتت!

رغم أني كنت شغوفاً بحضور مؤتمر ومعرض جايتكس في دبي لعدة أعوام متتالية، في ظل اهتمامي بالحاسب وتقنياته ومستجداته، كما كنت – في الوقت ذاته - أحضر ملتقيات للتعليم، والإعلام، وملتقيات للعمل الخيري، وكنت أتحسر كثيراً عند فوات حدث كهذا؛ إلا أنه قد تكونت لدي قناعة قوية– حالياً – أن إدراك كل الفعاليات، والملتقيات، والحرص على حضورها، وتوقع الإحاطة بمستجدات الفنون المختلفة، أمر دونه خرط القتاد، وأن الأعمار تفنى دون أن يتمكن المرء من ذلك، وأن ملاحقة تلك الفعاليات تسجيلاً، وحضوراً، ومشاركة هو بذل للأوقات من غير طائل.

كما أنني أدركت جيداً أن النجاح ليس بالضرورة من خلال إضافة المزيد من المناشط واللقاءات وتوسيع الاطلاع بالاستماع أو المشاهدة، وإنما يكون النجاح من خلال (التركيز) والذي يعدّ الاستبعاد الاختياري للكثير من المشتتات أحد أهم عوامله.

وحين أتحدث عن المشتتات فلست أتحدث عن (مضيعات الأوقات) بلا فائدة، وإنما أعني القرار المتعمد بالتخلي عن كافة الأشياء التي تأخذك بعيداً عن مجال تخصصك، وإبداعك، وشغفك، وذلك أن الأوقات – في نهاية المطاف- محدودة جداً، والأعمار قصيرة، ومع تعمّق وتشعّب وتوسّع العلوم والتخصصات، وانشطارها وتفرعها، فإن الإحاطة ببعضها يغدو أمرأ مستحيلاً، فكيف بالتوسع في الفنون؟

لذا تكون مهارة (الاستبعاد) من أهم المهارات التي يجدر بنا العناية بها وتعاهدها، والمراجعة الدورية لجداولنا ومواعيدنا للتحقق من الالتزام بها.

وحين توصلت إلى هذه القناعة واستوعبتها جيدا، زهدت في الكثير من الفعاليات رغم كل الزخم  المحيط بها، وحديث الناس عنها، وقوة التسويق لها، وبتّ قادراً على التحكم في مشاركاتي لتكون في الأكثر أولوية ونفعاً، وليس في هذا الاستبعاد تقليلاً من شأن تلك الفعاليات أو القدح فيها  بالضرورة، لكنني أدرك أن مادحوها إما المنظمون لها، والقائمون عليها ممن يرون الحضور والثناء نجاحاً فعلياً لهم، أو أولئك الذين لامست الفعالية احتياجاتهم، واهتماماتهم الفعلية والمباشرة، وهو ما يشير إلى أن إعجاب أولئك بالفعالية لا يعني بأي حال أنني سأشعر بذات المشاعر والانطباعات حين أحضر.

ولو ألقيت نظرة على أحد جداول الفعاليات المقامة داخل دولتك، بل وداخل مدينتك، لوجدت أن الفعاليات لا تتوقف، بل تتزاحم وتتعارض، وتقام في الوقت ذاته، وهي الفعاليات التي لو تفرغت لها بالكلية، وتركت كل عمل سواها، لما أحطت بها، واضطررت قسراً إلى تفويت جملة منها.

ومن هنا فإن إدراك ذلك والوعي به، والرضا بترك جملة غير قليلة من الفعاليات عمداً، والتغيّب المقصود عنها، وقبول ذلك، وضبط النفس على ذلك يعدّ أمراً مهما لكونه يدفع نحو مزيد من التركيز الذهني، والتخصص النوعي، ويحافظ على الوقت، ويحقق السكينة والهدوء والراحة النفسية في آن واحد.

فإن كنت ممن يتحسر كثيراً على كل فعالية تفوت، فقد يكون هذا الحديث مناسباً لك، وملامساً لاحتياجك.

دمت بخير ،،،

محمد بن سعد العوشن

25 /2 / 2023  (الدمام) 


فبراير 20, 2023

الاحتفاء بالفشل!

تحدث تيم هارفورد في كتابه الجميل المعنون بـ(تكيّف)عن أهمية خوض التجارب تلو التجارب للوصول إلى الحلول، مشيراً إلى أن تحقق النجاح مرتبط - في الكثير من الأحيان – بعدد المحاولات الأولى المتضمنة وقوعاً في الكثير من الإخفاقات، وخوض الكثير من تجارب الفشل.

تلك المحاولات التي ساهمت وتساهم بشكل فعّال في تحقيق التعلّم الذاتي، والمؤسساتي، والتي من خلالها يدرك الأفراد بوعي عميق: ما الذي يجدي، وما الذي يكون بلا جدوى.

وفي واقعنا المعاصر، نجد أننا نسرّ ونبتهج حين يتحقق النجاح، ونكرّم أولئك الناجحين، ونرفعهم فوق الرؤوس عالياً تقديراً لجهودهم ونجاحاتهم التي أحدثت أثراً على المجتمع، غير أننا نغفل - كثيراً - عن تقدير الذين حالفهم الفشل في طريقهم ومساعيهم، رغم بذلهم غاية الوسع والجهد، وفعلهم للأسباب، وبحثهم الدؤوب عن الحلول.

 إذ ننظر إليهم بنظرة تقلل من شأنهم، بل ربما طالتهم الألسنة بالذم والتقريع.

ولعل أي قارئ يعود لتاريخ العلوم، والتقنيات الحديثة التي خدمت البشرية، وينظر في الاكتشافات المذهلة التي تحققت في المائتي سنة الماضية، فإنه سيرى -وبشكل واضح جلي- أن كل نجاح باهر، وإنجاز عظيم، جاء بعد العشرات أو المئات من المحاولات الفاشلة، والتي كان لبعضها نتائج سلبية كبرى، غير أنه تم احتمالها والقبول بها لأن مسار  التعلّم الطبيعي، لا يكون إلا من خلال التجربة والخطأ ، وبشكل مستمر ومنتظم.

ويتحدث المهندس الروسي بيتر بالشينسكي المقتول عام 1928م عن ثلاث مبادئ جديرة بالعناية، للتكيّف مع المستجدات غير المتناهية في عالم اليوم، وفي حياتنا اليومية، وهي :

أولا : البحث الجادة والمستمر عن أفكار جديدة، وتجربتها، مع توقع أن يفشل بعضها، ولا يحقق مبتغاه، فالخوف من الفشل مانع عن الإبداع.

ثانيا : حين نجرب شيئا جديدا، فلنقم به على نطاق يكون من الممكن فيه النجاة في حال الفشل، وهو ما يعني أن تكون التجربة دوماً بخطوات صغيرة ، وفي الوقت ذاته فإنها كبيرة بما يكفي لإحداث الفرق ، دون الخوض في مغامرات كبرى تؤدي للانهيار في حال وقوع الفشل.

أم المبدأ الثالث فهو : حينما نبدأ في خوض التجارب، والمحاولات، فلابد من الحرص التام على البحث عن التغذية الراجعة، والتعلّم من الأخطاء أثناء التقدم نحو الأمام.

ومن خلال هذه الخطوات الثلاث، فإنه يمكننا في الحقيقة الاحتفاء بالفشل، والفاشلين، واستشعار أن الفشل هو الطريق – غالباً – الموصل إلى النجاح.

ما أحوجنا في حياتنا الشخصية، وأسرتنا الصغيرة، ومنظماتنا، ومجتمعنا أن نسمح ونشجع الجميع على أخذ زمام المبادرة، والسعي نحو تقديم الحلول لمشكلاتنا، وخوض الكثير من التجارب في سبيل ذلك، مع مراعاة تلك المبادئ الثلاثة، وتقبّل الفشل الذي وقع رغم كل المحاولات.

وإذا فعلنا ذلك فعلياً، وأوجدنا الأجواء المناسبة له، وتقبلنا بالكثير من الودّ حالات الإخفاق المتوقعة، فإننا موعودون بإذن الله بحاضر مشرق، ومستقبل مبهر، وأن نكون في مصاف الأمم التي تصنع فرقاً كبيراً في حياة البشرية المادية.

ويجب ألا ننتظر أن يكون ذلك بشكل كلي وشامل، وبقرار يصدره مسؤول، بل أن نبادر بأنفسنا ونفتح الباب في حدود صلاحياتنا الشخصية، ونطاق مسئولياتنا، ذلك أن النجاح بطبيعته يغري الآخرين بالاحتذاء والتقليد، فلنقدم نحن بذواتنا النموذج الأمثل للتكيّف مع المتغيرات، وتشجيع الإبداع، والمسابقة إلى الحلول.

وإلى ذلك الحين - وأرجو أن يكون قريباً-  دمتم بخير ،،،


محمد بن سعد العوشن 

1 شعبان 1444 هـ 


فبراير 18, 2023

مبادرة توثيق الموفّقين

مع التقدّم التقني المذهل اليوم، وتوسّع مسارات توظيف التقنية في تيسير الخدمات، وتوثيقها، شهد المجتمع نقلات نوعية في الكثير من الخدمات، فأصبحت الكثير من العمليات البنكية، والعدلية، والوظيفية، والصحية، والأمنية، والتجارية تتم باستخدام التقنية، بما يحقق سرعة الإجراء، ودقته، وكفاءته، وسهولة المحاسبة والمتابعة له، فقد أصبح (النفاذ الوطني) مدخلاً مأموناً ومضموناً للولوج إلى الكثير من المنصات الرسمية.

ومن هنا تأتي مبادرة :  "توثيق الموفّقين" او "توثيق الخطابات" والتي أرى بأنها تأخرت كثيراً في الانطلاق، مع أن طبيعة العمل فيها تقتضي وضع الكثير من الضوابط والاحتياطات، وذلك لأمرين، أولهما : ارتباطها بمعلومات عائلية متسمة بالسرية والكتمان، وثانيهما: وجود التحويلات المالية بين العديد من الأطراف، مما يوجب المزيد من الرقابة والإشراف والتدقيق، حتى لا تكون هذه الخدمة بوضعها الحالي أداة لغسل الأموال.

وتقوم هذه المبادرة على "توثيق الموفّقين"، أي توثيق من يقومون بالتوفيق والدلالة  بين طالبي الزواج من الجنسين، وذلك بتسجيل بيانات كل من يرغب العمل في مجال التوفيق بين راغبي الزواج، ويكون ذلك وفق شروط ومحددات وضوابط، ومن خلال بيانات مكتملة عن الموفّق، وما يثبت شخصيته، وحسابه البنكي، واشتراط التسجيل في بوابة المشروع لدى الوزارة في كل من يمارس هذه الخدمة، بحيث يمكن للراغبين في التعامل معهم أو معهن أن يتأكد من وجود هذا المعرّف برقمه التسلسلي ضمن من تم توثيقهم لدى الوزارة، ويتحقق من سلامة البيانات المالية له.

كما أن المبادرة تقوم – في الوقت ذاته – بتقييد أي حوالات يتم تنفيذها من أجل ضبط العملية، وتوثيقها، وحماية حقوق الطرفين في حال وجود أي خلاف بينهما.

وحينها يمكن اعتبار كل معرّف أو رقم هاتفي يقدم هذه الخدمة دون ترخيص، ودون توثيق، فإنه يقوم بعمل غير مشروع، خصوصاً حين يكون ذلك بمقابل مادي.

لاشك أن تعدّد وسائل التوفيق بين راغبي الزواج، وتيسيرها، وتكثيرها هو أمر في غاية الأهمية، ذلك أن جزءاً غير قليل من العنوسة التي نشتكي منها اليوم ناشئ عن فقدان التواصل المجتمعي بين الناس، وتحولهم من العلاقات المجتمعية المتداخلة – سابقاً - إلى العوائل الصغيرة جداً – حالياً – والمنفصلة عن بعضها البعض رغم التجاور، فدور ( الموفّقين ) دور مهم، وهو دور أصيل، حتى وإن اكتنفت الممارسة العملية لهذا الدور – اليوم-  الكثير من الأخطاء والتجاوزات بسبب عدم التنظيم.

إن الحديث عن أهمية وجود (الموفّقين) لا يعني إطلاقاً أن يترك الباب مفتوحاً على مصراعيه لمن شاء ليعمل تحت اسم (خطابة)، فالمتصيدون بهذا الاسم كثير، هذا فضلاً عن أن معرف الخطابة ليس بالضرورة أن تديره امرأة تقوم بهذه الخدمة، فأحياناً تكون هذه المعرفات والهواتف وسيلة يسيرة لاصطياد الفتيات، والإيقاع بهن، وربما تكون وسيلة لابتزازهن، فضلا ً عن أن جملة من هذه المعرفات أصبحت وسيلة لأخذ الأموال بغير حق باستغلال حاجة الرجال والنساء للزواج، كما أنه تحت هذه المعرفات يتم الكذب بتزيين وتزوير معلومات  الرجل أو المرأة حيث يتم إضفاء الكثير من الصفات والمزايا والخصائص لضمان إجراء التحويل المالي، وذلك لأنهن – حتى الآن – بمأمن الإشراف والرقابة.

ولأن وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية مشكورة قد تمكنت من خلال الكثير من مبادراتها أن تضبط وتوثّق العديد من الإجراءات، لكونها الجهة المنظّمة لهذا القطاع (الاجتماعي)، فإنني أقترح عليها ان تطلق هذه المبادرة، والتي ستساهم – بإذن الله – في تقليص عدد المتلاعبين والمتلاعبات بمشاعر الراغبين في الزواج، وسيخفت بريق المخادعين، ويزهد الناس في كل من يعمل وهو غير موثّق رسمياً.

ويمكن للوزارة أن تطلق بوابة إلكترونية تتيح لكل من استخدم خدمات هؤلاء "الموفّقين" أن يقوم تقييم مستوى الخدمة المقدمة، ووضع درجات تعبر عن مستوى الموفّق، وتحديد مدى مصداقيته وحسن تعامله مع المستفيدين، مع الحرص على تطوير أداء هؤلاء الموفّقين، ومساندتهم، ووضع الضوابط لهم، ومراقبة أدائهم، وإعانتهم بالنماذج والبرامج المعينة، بما يحقق للوزارة مساهمة فاعلة في إتمام التوفيق، والتخفيف من العنوسة، من خلال عملية متكاملة موثوقة، ومتابعة مستمرة.

وأحسب أن الوزارة قادرة على ذلك، ولها تجارب متعددة في توثيق المواقع والمعرفات الإلكترونية للأسر المنتجة والأفراد الذين يتولون متاجر خاصة من خلال الإنترنت، فقدرة الوزارة على تكرار التجربة للخطابين والخطابات أمر مؤكد.

بل يمكن للوزارة أن تفرض رسوماً يسيرة للاشتراك في هذه الخدمة يقوم بدفعها الموفّق لضمان جديته، وضمان استدامة المشروع حتى لو قررت الوزارة- لاحقاً- التخلي عن دعمه مالياً.

أرجو أن يجد هذا الاقتراح أذناً صاغية في وزارتنا الموقّرة، وأن نسعد قريباً بإطلاق بوابة (توثيق الموفقين) والإلزام بها، وأن نرى ثمار ذلك على أرض الواقع خيراً وبركة.

وتقبلوا تحياتي ،،،

محمد بن سعد العوشن

كاتب مهتم بالعمل الخيري

binoshan@gmail.com 

28 / 11 / 2022م