أغسطس 23, 2022

النوم المطمئنّ

يأتي وقت النوم في نهاية كل يوم ليكون أشبه بكشف الحساب لكل واحد منها عما فعله خلال تلك الأربع وعشرين ساعة الماضية، وما قصّر عن فعله في الوقت ذاته.

فحين يستلقي المرء على فراشه، ويأوي إلى سريره، ويضع رأسه على وسادة النوم، فيكون الجسد في مرحلة من الإرهاق قد خارت قواه، وانتهت طاقته، وحان وقت راحته وسكونه، حينها: يبدأ الدماغ في ممارسة المهمة الأخيرة قبل النوم، وهي المهمة الصعبة!

إنها مهمة الاسترجاع السريع لمشاهد وأحداث اليوم، وحين يبدأ الاستعراض السريع جداً، فإنه يتوقف فجأة عند بعض تلك المشاهد، فيعيد المشهد مرة واثنتين وثلاثاً، وربما استمرت إعادة التشغيل وكأن خللاً ما أصاب جهاز التسجيل فاستغرق في الإعادة وراء الإعادة..

هنا يأتي حديث النفس، ليكشف عن المخبوء، عن نقاط الألم والحسرة، عن مواضع الوجع، عن الأقوال والأفعال التي أوجعتك، ومرت سريعة وحاولت تناسيها في وقتها، لكنها جاءت في ختام اليوم متأبيّة على النسيان، ثم تأتي تلك الأقوال والأفعال التي أوجعت بها الآخرين، تأتيك لتسائلك عما حملك على ذلك، وكيف طاوعتك نفسك أن تصنعها، وتذكرك بأن أولئك الآخرين هم  الآن – مثلك – يستعدون للنوم، لولا ذلك الألم النفسي الذي يسيطر عليهم من جراء صنيعك.

ويأتيك في الوقت ذاته أفكار وتساؤلات عن حياتك، ووقتك، ومالك، وعملك، وأهلك، حسب آخرهم وروداً، أو ملاقاة..

ولذا فإن الذين ينامون سراعاً هم أولئك الذين يخلدون إلى فرشهم في نهاية اليوم وقد قاموا بمهامهم وأدوا واجباتهم، ولم يظلموا أحدًا، ولم يعتدوا على أحد، إنهم أهل “الإحسان”، ولذا لا عجب أن يكون نومهم نومًا عميقًا مطمئنًا، فـ (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان)؟

ذلك أن أحد أهم أسباب التكدير الذي يحيط بالناس قبيل نومهم أن يشعروا في قرارة أنفسهم أنهم واقعون في الخطأ، موغلون في الذنب والتقصير تجاه الله تعالى أو تجاه أحد من خلقه، فتأتي النفس اللوامة وتكرر على صاحبها: لم فعلت هذا؟ لم ظلمت هذا؟ لم قلت هذا؟

ولذا فإن الحرص على تجنب المظالم، والسعي وراء اللقمة الحلال، وأداء الحقوق والواجبات، وصلة الرحم، والقيام بحق الله تعالى، من شأنه أن يرزق المرء السكينة والهدوء وراحة البال، ويجعل نومه هنيئاً مريحاً طيباً.

وإنني أدرك وأنا أقول هذا أن بعض ذلك الألم ربما يكون ألما يصيب “المظلوم” لا الظالم، و “المؤذى” لا “المؤذي”، والذي يمنعه الألم النفسي غالباً من الخلود إلى النوم، ويؤرقه التفكير في “الانتقام”، والدعاء المستمر على ظالمه، وتذهب عليه الأوقات في تضخيم الألم وتعظيمه، وتفاصيل الوجع، وجزئياته، والوصية لهذا وأمثاله: أن يسلك مسلك تسهيل الأمور، وتهوينها، والتماس الأعذار والتبريرات للطرف الآخر متى أمكن ذلك، وإحسان الظن بالمقاصد وإن لم تصب الوسائل، فإن ذهابك لفراشك وليس في قلبك غلّ على مسلم، مدعاة للسلامة النفسية والجسدية معاً، فسلامة الصدر، والعفو، والتسامح، كلها مبعدات للأرق، مذهبات للأفكار المزعجة التي تحول بينك وبين النوم المستغرق العميق اللذيذ، فطهر قلبك وابشر بالخير، وتيقن أن راحتك من أعظم ما يغيض عدوّك، وأن التجاهل، والعودة إلى اليوم التالي بكل نشاط وكأنك من النوع الذي لا يكسر، هو أفضل رسالة يمكنك إيصالها.

ولنكرر تلك الدعوات العظيمة التي يدعو بها المؤمنون ربهم :(ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم)

ولنتذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال لأصحابه ثلاث مِرَار: يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنَّة، وفي كل مرة يطلع لهم ذات الرجل، فأوى إليه أحد الصحابة لينظر في ما يعمل ليقتدي به، فلم يره يعمل كثير عملٍ، فسأله: ما الذي بلغ بك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ما هو إلا ما رأيت، غير أنِّي لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غِشًّا، ولا أحسد أحدًا على خير أعطاه الله إياه.

وسوف تدرك حقيقة ما أقول عن تجرّبة العيش وفقًا لمبدأ (أداء الحقوق وترك المظالم والتغاضي عن الأخطاء)، في حجم السعادة والهناء، والهدوء والاسترخاء التي تشعر بها كل ليلة حين تأوي إلى فراشك، حيث المقياس الختامي لطبيعة يومك، وكيفية تعاملك مع أحداثه بحكمة واتزان.

متمنياً لكم أياماً سعيدة، وليالي هانئة، ونوماً عميقاً مشبعاً…

دمتم بخير

محمد بن سعد العوشن

@bin_oshan

تم النشر في صحيفة تواصل من هــنــا

أغسطس 15, 2022

لذة الاكتفاء

أشار بحث أجراه مصرف (كريدي سويس) السويسري إلى أن عدد المليونيرات في العالم وصل إلى 56 مليون شخص، وهم الذين يملكون ما يقارب 4 ملايين ريال، وتبلغ نسبتهم المئوية مقارنة بعدد الأشخاص البالغين من سكان الأرض عن 1%، أما حين نقارن عددهم بإجمالي عدد البشر على الكرة الأرضية، فسوف تتضاءل هذه النسبة كثيراً، وفي السياق نفسه، فقد أشارت مؤسسة "نيو وورلد ويلث" المتخصصة في دراسة الثروات إلى أن عدد المليونيرات في الشرق الأوسط يبلغون 390 ألفا.

وهذه الأرقام تشير إلى نقطة في غاية الأهمية، ألا وهي أن وصول المرء إلى أن يكون رقماً ضمن هذه الأرقام رغم كونه ممكناً ومحتملاً، إلا أنه في الواقع صعب وعسير، ويتضمن منافسة كبيرة مع مليارات البشر للانضمام إلى هذه القلة القليلة، ففي نهاية المطاف، سيحصل قلة قليلة منا على اسم (المليونير)، لكن النسبة الغالبة من القراء، سيحصلون على وظيفة لا بأس بها، وراتب مناسب، وسيكون لديهم مبلغ من المال يكفي لتغطية احتياجاتهم، وكثيراً من متطلباتهم في أحسن الأحوال.

وحديثي هنا ليس تزهيداً في الثروة، أو تقليلاً من أهمية العمل الجاد لتحقيق الحرية المالية، والعيش الرغيد، والسعادة والاكتفاء، بل ذلك مطلب مشروع لكل أحد، وهو غاية نبيله تستحق العمل عليها، و "نعم المال الصالح للرجل الصالح" كما في الحديث الصحيح.

غير أن هذا الحلم، من شأنه أن يدفع المرء للعمل المتواصل وتقبل الكثير والكثير من الخسائر لأجل تحقيق هذا الهدف المنشود، ومن شأن هذا الحلم - أحياناً - أن يجعل المرء مصاباً بالإحباط والحزن من جراء عدم قدرته على الوصول إليه رغم كل ما تمت التضحية به، ومن شأن هذا الحلم كذلك أن يتسبب في فقدان الاستمتاع بالكثير من الملذات الموجودة والمتاحة والممكنة، لأن صاحبها في انتظار الملذات المفقودة والمتوقعة والمحتملة.

كما أن المتغيرات في عالم اليوم جعلت الناس أكثر تطلّعاً للعيش في ظروف عيش الآخرين، والسعي لمحاكاتهم والسير وفقاً لمسيرتهم، وعدم الاكتفاء، متناسين الكثير من الظروف والأحوال والقدرات الموجودة لدى الآخرين.


وبات لدى الكثيرين – أياً كان مستوى دخلهم - طموح في السفر لذات البلدان التي يسافر إليها الأثرياء، بنفس وسائل النقل ومستوياته الترفيهية، والسكن في أفخم الفنادق، وتناول الطعام في أرقى المطاعم، ولبس أغلى الملابس، واقتناء أفضل الهدايا، وتوثيق ذلك كله في وسائل التواصل الاجتماعي بهدف أن نثبت للجميع أننا لسنا أقل من الآخرين، ولا ينقصنا شيء لنكون مثلهم.

ويعود أولئك المساكين من رحلاتهم وهم مستنزفون، مستهلكون، مالياً ونفسياً وجسدياً، مترقبون للتعليقات هنا وهناك، ينتظرون الفرصة السانحة أو يوجدوها ليتحدثوا عن تفاصيل رحلتهم الاستثنائية، وعجائب ما فيها، ويشيرون إلى تلك المعالم الرائعة التي لم يفوتوا فرصة الوقوف عليها، ويستشهدون على ذلك كله بأرشيف الصور الضخم الذي تم التقاطها من كل جوالات المشاركين في الرحلة، فكل واحد منهم لديه قائمة بمن سيحدثه ويروي له ويتظاهر أمامه.

ومع أن تجاوز المرء لأقرانه في أي مجال من المجالات يعدّ أحد مصادر الوقود للعمل الجاد، غير أنه لن تكون هناك متعة حقيقية مستدامة إذا لم يستطع الوصول إلى الشعور بالرضا بما قسم الله له، والشعور بالاكتفاء، ذلك أن "الهدف المالي" في الكثير من الأحيان غير محدد برقم منطقي يمكن الوصول إليه، بل هو أشبه ما يكون بالعارضة التي يقفز فوقها الرياضيون، وكلما استطاعوا القفز لرقم محدد، رفعوا العارضة درجة إضافية، ولهذا فإن من أصعب المهارات الحياتية المالية: إيقاف العارضة عن الحركة! والاكتفاء بما تم الوصول إليه، رغم إمكانية جني المزيد!

إن من المهم أن تحدد الرقم المناسب لك، وأن توطّن نفسك على الالتزام به، و(الاكتفاء) به، والتوقف عن المزيد من التضحيات لجلب أرقام إضافية، وألا يكون معيارك للحكم على وضعك: ما يقتنيه الآخرون، وما يفعله الآخرون، وما يكسبه الآخرون.

إن الاكتفاء المنشود لا يعني العيش في الفقر، ولا الرضا بالدون، ولا التقتير على النفس والأهل، غير أنه يعني (الاتزان)، والتوقف عن اللهاث المستمر وراء كسب المزيد من لقمة العيش، فالقناعة كنز لا يفنى، وهناك الكثير من الأشياء القيّمة في الحياة، مما لا يقدّر بثمن، ولا يصلح التفريط فيها من أجل المال، ومنها على سبيل المثال: السمعة الحسنة، والقدرة على الاستمتاع بتفاصيل الحياة، والاستقلالية، والعائلة، والأصدقاء، وسكون النفس والطمأنينة التي تغشاها، وهي أمور لا يمكن المحافظة عليها أثناء استغراق المرء بكليّته في الجمع المتواصل للمال، أو في السعي بلا توقف نحو تحصيل الثروة.

وفي الختام أذكّر بحديث النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوصينا -كما في الحديث الصحيح-: (انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فإنه أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم)، ذلك أن نظر الإنسان إلى من هو أعلى منه؛ يؤدي إلى استحقار ما لديه من النعم، وقد يؤدي به ذلك إلى كفران النعمة وعدم اللهج بشكرها.

أسأل الله تعالى أن يرزقنا من واسع فضله، وأن يغنينا على الناس، وأن يبارك لنا في رزقنا، وأن يمتّعنا به، ويجعله عوناً لنا على الطاعة، وأن يرزقنا القناعة بما قسمه الله لنا.

دمتم بخير،،،

محمد بن سعد العوشن

15 محرم 1444 هـ