سبق نشرها في 5 / 2015 م
وفي يوم الاثنين التاسع من شهر جمادى الأولى لعام 1443هـ، وبعد ابتلاء ومعاناة مع المرض؛ غادر الشيخ مشرف الشهري هذه الدنيا، منتقلًا إلى الرفيق الأعلى، غادر بهدوء وسكون، غير أن ألسنة الناس لم تهدأ عن اللهج له بالدعوات إثر الدعوات، وذكر المزايا والحسنات لأنه كان ذا أثر باق، وقدّم عملًا مختلفًا.
يصدق في الشيخ مشرف الشهري أنه (متفق عليه)!
متفق على الثناء عليه، وعلى خدمته للعلم الشرعي، وبذله، وخلقه، وإنجازاته، فهو لم ينشغل بالمعارك الجانبية، ولا الخلافات السطحية، ولم يقبل أن يمضي وقته ونشاطه وحماسته في الخوض مع الخائضين، ولم ينشغل ببنيّات الطريق، وصغائر الأمور، ترك ذلك كله، وتوجّه بكلّيّته نحو “العمل” فحسب.
لذا فإن مشرّف الشهري يعدّ أنموذجًا على “التركيز” و”التخصص” و “الاستمرار”، وهذه الثلاث الثمينة – بعد توفيق الله – كانت سببًا في أن حقق مشروعه النجاح والانتشار الواسع النطاق.
وكانت مجالات العمل التي يمكنها الانخراط فيها كثيرة، لكنه توجّه نحو “منطقة الفراغ” التي لم تسدّ، حيث لم يشأ أن يزاحم الآخرين، بل رأى أن يكون على “ثغر” آخر، فيقدّم فيه “قيمة مضافة”، وتكون له “بصمة” واضحة، لا ينكرها كل من له بالعلم الشرعي صلة.
ومما ميّز مشرّف الشهري – رحمه الله – أنه جعل كل مشروعاته لخدمة “شريحة محددة”، و “مهمة” في الوقت ذاته، وهي شريحة “طلاب العلم”، فقدّم لهم خدمة عظيمة القدر، جليلة النفع، فكانت مما يبقى للمرء بعد وفاته، من العلم النافع الذي يستمر أجره بعد ذهاب صاحبه.
ولعل إطلالة سريعة على تلك المشاريع، تكشف للقارئ كيف أثّر التخصص إيجابًا، فمن موقع الباحث العلمي، إلى الباحث القرآني، إلى الباحث الحديثي، بالإضافة إلى توظيف التيلجرام؛ من خلال ما يزيد عن عشرين قناة متخصصة، اعتنت بجمع أكبر عدد ممكن من الكتب الشرعية، والمخطوطات، والرسائل العلمية، والبحوث المحكّمة، والمتون، وفقًا للتخصصات المختلفة، وتيسير الوصول إليها، والحصول عليها، فضلًا عن قنوات متعددة للدروس والدورات، والكتب الصوتية، والدعوية والتلاوات.وكان أبا محمد، مشرف بن محمد بن حسن الشهري، المولود في قرية خشرم التابعة لمحافظة النماص، عام 1383هـ، ومنذ ما يزيد عن عشرين عامًا يجمع تراث أهل العلم المعاصرين، فيسجل دروسهم، ومحاضراتهم، وبرامجهم المختلفة، ويؤرشفها لديه في وسائط تخزين رقمية، ثم يقوم بإرسالها للمراكز الإسلامية في أنحاء العالم، ولطلبة العلم الذين يطلبونها، ثم توسع في التوثيق للتراث العلمي، فتوسع في توثيق المخطوطات المصورة رقميًا، وكان يقوم بالكثير من الأعمال والمهام وحده.
ومع ذلك كله لم يكن مشرّف الشهري – رحمه الله – كثير الظهور، ولا كثير الحديث، لكنه – باتفاق الجميع – كان كثير العمل، منغمسًا فيه بلا كلل أو ملل، فكانت مشروعاته على أرض الواقع لسان الصدق؛ الذي يسري بين أهل الاختصاص، في كل الأقاليم والبلدان، دون الحاجة إلى حملات ترويجية، أو مشاريع تسويقية.
واليوم، وقد وارينا مشرّف الشهري الثرى، بعد أن قدّم ما يستطيع، وبذل كل طاقته فيما يحسن، فإننا بحاجة ماسّة إلى تحويل عمله المبارك إلى عمل مستدام، ومواصلة مسيرته العلمية التخصصية، والتعهيد بمشروعاته الرائعة لفريق عمل يواصل المسيرة، أو لجهة علمية مهتمّة يمكنها أن تبني على النجاح نجاحًا، فتعمل على التطوير والتحسين والاستمرار لهذه المشاريع المباركة، وذلك خير إحسان يمكن أن نصنعه للفقيد، من خلال إطالة عمر تلك المشروعات وتعظيم أثرها، والاستفادة من هذا الصيت الحسن، والسيرة العطرة التي لهجت بها الألسن بعد وفاته.اللهم اغفر لعبدك مشرّف الشهري، وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا ربّ العالمين، وافسح له في قبره، ونوّر له فيه.
اللهم اجعلنا مباركين، وشرّفنا بخدمة دينك القويم، وكتابك العظيم، وسنة نبيك الكريم، واختم لنا بذلك ياربّ.
محمد بن سعد العوشن
نشر في صحيفة تواصل هــنــا
غير أنني أرى أن التوجه نحو الأوقاف الصغيرة والمتناهية الصغر ليس أسلوبًا ناجحًا، ولا مستدامًا، على المدى المتوسط والطويل، فالوقف مشروع استثماري، يستهدف التوظيف الأمثل للعين الموقوفة، وتحصيل أكبر إيراد منتظم مستدام منها، ثم توظيفه في شرط الواقف كمصرف وقفي فعّال ومؤثر، وهو ما يصعب تحققه في الأوقاف المتناهية الصغر.
ويعود ذلك لعدة أسباب منها: الخبرة لدى أولئك الأفراد – غالبًا – في موضوع اختيار الوقف المناسب، أو الإشراف على الإنشاء، أو دراسة الجدوى قبل ذلك، فضلًا عن إدارة الوقف وتحصيل عوائده، كلها خبرات محدودة، وربما يكون هذا الوقف هو أول مبنى إنشائي يشرف عليه هذا القائم على الوقف، فلا عجب أن تقع الكثير من الأخطاء في كل المراحل المشار إليها سابقًا.
وتدار تلك الأوقاف – غالبًا – بحماسة وحرص الفرد الذي سعى لهذا الوقف، ومشروعاته التي يقوم عليها، فإذا عجز أو مرض أو مات – وهو أمر سيحدث بالتأكيد – فإن ذلك العمل الفردي يتوقف، ويتولى الوقف أشخاص أقل حماسة للأمر، ويبدأ الوقف في الانحسار، بل ربما توقف الوقف بالكلية وتعطل تمامًا.
يكون إيراد تلك الأوقاف محدودًا أصلًا، وبالتالي يتعذر مع هذه الإيرادات المتدنية أن يتم تعيين الكفاءات المناسبة والمميزة التي يمكنها فعلًا أن تطوّر من الوقف، أو تكون في نظارته، أو تشرف على صرف عوائده.
يعتبر تكاثر الأوقاف بشكل كبير، مع قلة عوائدها، وضعف إدارتها؛ استهلاكًا للكثير من الموارد المالية التي كان من الأولى أن تذهب مباشرة للموقوف عليهم من المستفيدين منها، بدلًا من استنزاف الكثير من الأموال وتجميدها دون عائد يذكر، أو مستقبل مضمون.
ولهذا فإنني أدعو إلى تجميع كل مجموعة متشابهة أو متقاربة من الأوقاف الصغيرة في وقف مشترك، له مجلس نظارة واحد؛ ذلك أن اندماج الأوقاف المتناهية الصغر في وقف واحد، يجعله ذا أصول مناسبة، وإيرادات مرتفعة، وبالتالي، يمكن حينها توظيف القدرات المناسبة، أو التعاقد مع جهات متخصصة لتولي موضوع الاستثمار أو التطوير أو الإدارة، ويتم صرف العوائد وفقًا لشروط النظار أو ما يقاربها من مصارف.
ولنا في اندماج الشركات والبنوك – رغم ضخامة رؤوس أموالها – أسوة وقدوة، ذلك أنها ترغب من خلال الاندماج إلى أن تعظم مكاسبها، وتزيد من حصتها، وهو عين ما تهدف له الأوقاف المتناهية الصغر باندماجها، من خلال تعظيم الأثر، وزيادة الأجر.
وبهذا الاندماج المقترح، فمن المؤكد – بإذن الله – أنه سيكون لتلك الأوقاف عوائد أكبر، وإدارة أكفأ، وحوكمة أقوى، وأثر أعمق، واستدامة أطول.
وأنا هنا لا أعمم، فمن المؤكد أن هناك أوقافًا متناهية الصغر عظيمة الأثر، كما أن هناك أوقافًا كبيرةً فاشلة لا تحقق أهدافها، ولذا فإنني أدعو كل ناظر أو واقف إلى مراجعة وضع وقفه، والتأمل في وسائل تعظيم آثاره، ومن ذلك تدارس هذه الفكرة، وتطويرها، وطرحها في ورش عمل متخصصة، تزيدها تحسينًا وتصويبًا، وتعدل أي اعوجاج فيها بما يحقق المصلحة العامة، وانطلاقًا من الواقفين أنفسهم أو النظار والمشرفين على تلك الأوقاف، دون المساس بأي مكتسبات مشروعة لهم، وأن يكون هذا الاندماج اختياريًا لا إجباريًا بأي حال.
كما أنني اجدها فرصة للحديث عن فكرة أخرى تساهم في تعظيم أثر تلك الأوقاف الصغيرة، وهي أن يقوم كيان إداري متخصص بتقديم خدمات مشتركة في الجوانب المالية والإدارية والحوكمة لتلك الأوقاف بدون مقابل، أو بمقابل يسير، بحيث يتحقق لتلك الأوقاف المزيد من الإنضاج والضبط دون أن يتحمل الوقف مزيدًا من التكاليف المالية التي لا تفي غلة الوقف بها.
وأخيراً .. فإنني أتحدث في مقالي كلّه عن الأوقاف الاستثمارية التي تدر دخلاً ينفق على مصارف الخير، أما الأوقاف العينية التي يستفاد من أعيانها، فشأنها مختلف، والاستفادة منها لا تتطلب ذلك الاندماج المشار إليه.
كلّي تفاؤل وأمل – وأراه قريبًا – أن يكون حديثنا التالي عن هاتين الفكرتين (الاندماج ، الخدمات المشتركة)، وقد تحوّلتا إلى أرض الواقع، وقامت على سوقها، وأينعت ثمارها، وما ذلك على الله بعزيز.
محمد بن سعد العوشن
نشر في تواصل هــنـــا