سبتمبر 22, 2021

اكتبوا .. قبل رحيل الخبرات

 غيّب الموت كثيراً من رجالات العمل الخيري وقياداته والخبراء فيه، وافتقدهم العمل وهو في أمسّ الحاجة إليهم، افتقدهم وهم في مرحلة النضج، حيث نمت معارفهم، وازدادت خبراتهم، واستوت تجربتهم، وعظم تأثيرهم ودورهم، ففي خضم ذلك الصعود والترقّي، غادرونا دون ميعاد، وغابوا عن المشهد بصمت..، غادروا وذكرياتهم باقية، إذ يتردد اسمهم مرة بعد أخرى، ثم يبدأ ذلك الاسم في الخفوت شيئاً فشيئاً، فيسمع بهم الداخلون الجدد إلى العمل الخيري سماعاً عاماً، تروى فيه لهم بعض الحكايا والقصص عن أولئك الرواد الأوائل، وبذلهم وصنيعهم، ولا يتجاوز الحديث عنهم إلى ما هو أعمق..فتغيب شخوصهم، وتغيب خبراتهم في الوقت ذاته.

ورغم أن أولئك الرواد – والريادة لا تقتصر على جيل دون جيل – كانوا منخرطين في العمل، متسلحين بالعلم والخبرة والتجربة الواسعة، ولديهم مخزون معرفي كبير ومميز، تلحظه في أحاديثهم، وتسمعه في لقاءاتهم،  إلا أن الملاحظ لكل ذي عينين أنهم في الوقت ذاته ومع كل هذا البذل والجهد إلا أنهم مقتصدون (جداً ) في توريث تلك الخبرة والتجربة للذين يلونهم، لا عن تعمّد وقصد، بل انشغالاً باليوميات، وانخراطاً في مجريات العمل.

وهم فيما يتعلق بخبرتهم، إما متواضعون زاهدون فيما لديهم، يشعرون أنه ليس لديهم ما يستحق الكتابة أصلاً، وإما أن يكونوا مدركين أن لديهم الكثير مما يفترض أن يكتب، لكنهم يترقبون الوقت المناسب الذي يتخففون فيه من المشاغل، وتكون فيه الظروف مواتية، ليقوموا حينها بالكتابة، وهذه الظروف المنتظرة لا تجيئ غالباً ، لأن سلسلة المشاغل لا تنتهي، وظروف الحياة متغيرة ومتجددة، ويظل الواحد من هؤلاء يؤجل ويسوّف إلى أن يفجأه الموت على حين غرّة، وتغادر روحه جسده، فتدفن معه كل تلك التجارب والخبرات، وتذهب معه حصيلة ضخمة من المعارف والعلوم التي حل حصادها، وحان وقت قطاف ثمارها.

لذا فليس غريباً أن يعتبر ذلك المدير الأمريكي  (المقابر) أغنى الأراضي في العالم كله ، والسبب في ذلك الغنى أن ملايين البشر قد رحلوا إليها وهم يحملون في عقولهم الكثير من الأفكار القيّمة، والخبرات المتراكمة التي لا تقدر بثمن، رحلت معهم وهي لم تخرج إلى النور ولم يستفد منها أحد.

وهو ما ألهم (تود هنري) لتأليف كتابه الرائع (مُت فارغاً) والذي يدعو فيه البشر إلى أن يفرّغوا كل ما لديهم من أفكار وطاقات كامنة في مجتمعاتهم، وأن يقوموا بتحويلها إلى شيء ملموس قبل فوات الأوان، وكان من العبارات الجميلة التي ساقها (هنري) في كتابه: “لا تذهب إلى قبرك وأنت تحمل في داخلك أفضل ما لديك، اختر دائماً أن تموت فارغاً”، فهو يدعو إلى أن تغادر حين تغادر وكأنما فرّغت كل ما بداخلك من خير على أرض الواقع، ولم يبق لديك شيئاً لم تعلّمه للآخرين، أن تسلّم خبرتك وعلمك وأفكارك قبل أن ترحل، ونترك التأجيل والخلود إلى الراحة والتهرّب من تقييد التجربة فإن “حب الراحة هو عدو العظمة”.

ولا شك أن تقييد الخبرة، وتسجيل التاريخ، ليس أمراً يسيراً، ولا ممتعاً بطبيعة الحال، كما أن النفس ميّالة إلى السكون والدعة والبقاء في حدود منطقة الراحة والاعتياد لما ألفته من أعمال، ولقاءات، واجتماعات دورية، إذ لم تعد تتطلب جهداً كبيراً، ولا بذلاً إضافياً، أما التحوّل إلى عمل جديد وهو (الكتابة) وما يتبعها من المراجعة والتدقيق، وتجهيز تلك المادة للنشر، بكل ما يحمله ذلك من احتمالات ناتجة عن عرض عقلك على الناس، وتوقّع لطبيعة ردود الأفعال التي يمكن أن تقال حينذاك، فإن النفس تهابه وتخشاه، وتميل إلى تأجيله أو تبرير عدم القيام به،  خصوصاً مع التقدم في العمر، وحصول المكانة، فيتخوّف المرء من القيام بأي شيء جديد، وينتظر ذلك الخبير أن ينشط أحدهم لهذه المهمة ويسعى ليستخرج منه تلك الدرر دون أي جهد سوى الحديث الشفهي المرتجل فحسب.

إن توريث الخبرات، والتجارب، واختصار الزمن، وتعظيم الأجر يحتاج إلى جهد ووقت وبذل لا يمكن أن يتم إلى من خلال تحويل تلك الأمنيات إلى واقع، وعدم الانتظار ، واتخاذ القرار بالبدء في تقييد التجربة، وتحديد مواعيد نهائية لإنجاز المراحل، والنشر الإلكتروني لكل مرحلة يتم إنجازها بهدف ضمان النشر الفوري، وتلقي التغذية الراجعة سريعاً، وأن يعطى الأمر حقّه من خلال تخصيص الوقت اللائق به، وعدم اعتباره من فضول الأعمال، ولعل مما يعين على ذلك : تذكّر أن الموت يأتي فجأة، وأن كثيراً ممن رحلوا لم يكونوا يتوقعوا المغادرة بهذه السرعة، فاتعظ بمن سبقك، واتخذ قرارك.

دمتم بخير،،،


محمد بن سعد العوشن

bin_oshan@


تم النشر في مدونة مجلس المؤسسات الأهلية على هذا الرابط



سبتمبر 21, 2021

التركيز حين يؤتي أُكُله


النجاح ليس ضربة حظ، وليس قرارًا مفاجئًا، بل هو عمل دؤوب وتركيز في تحقيق الهدف والسعي من أجل محطة الوصول النهائية.

لا يأتي النجاح عرضًا، وحين يأتي بهذه الطريقة فإنه سرعان ما يزول، لأن النجاح في حقيقته تركيز للجهود، واستمرارية فيها. والتأمل في سير الناجحين في الحياة –أيًّا كانت دياناتهم أو بلدانهم أو مجالات عملهم– يجعلك توقن بأن النجاح ليس ضربة حظ، ولا نشاط مفاجئ، بل هو عمل دؤوب ومستمر، لا يعرف الكلل ولا الملل، يمضي فيه المرء سنوات متتالية وهو يعمل ويعمل ويعمل، وليس النجاح عملية تذوق للمجالات، وتخبط فيما بينها، فذلك مثله مثل “المُنبَتّ” الذي لا ظَهرًا أَبْقى، ولا أرضًا قَطَع.

وسأستعرض هنا أربعة أمثلة لناجحين حققوا أرقامًا عالية، وأحدثوا آثارًا كبيرة وواضحة، وحرصت في اختيار تلك الشخصيات، أن يكون اثنان منهما من بيئتنا الإسلامية القريبة، وأن يكون الاثنان الآخران من البيئة الغربية، كما تعمّدت أن تكون الشخصية الأولى من كل بيئة متوفاة، والأخرى على قيد الحياة.

ولنستعرض تلك السِّيَر على عَجَلٍ، مع التعريج على نقطة التركيز، والإنتاج الثري بناء على ذلك التركيز

فأما الأمثلة المأخوذة من بيئتنا، فإن الأول منهما هو: الإمام محمد ناصر الدين الألباني -رحمه الله- حيث يجد المتأمل لسيرته أن التركيز هو سمته الواضحة، والجلية، فهو قد تخصص في مجال السنة النبوية، وبشكل أدق في فحص الأسانيد، وتقييمها، وتتبعها، وتقييم رجال الحديث، ومعرفة العلل، وأمضى ما يقارب الستين عامًا من عمره في ثنايا تلك الكتب قارئًا ومتفحصًا ومدققًا ومعلمًا، مما جعله مرجعًا للأمة في مجاله.

ولذا فليس عجيبًا أن يكون نتاجه: أكثر من ثلاثمائة مؤلّف، بين تأليف وتخريج وتحقيق وتعليق، وبعض تلك المؤلفات تقع في مجلدات عديدة وضخمة، مثل: سلسلة الأحاديث الصحيحة، وسلسلة الأحاديث الضعيفة، وصحيح الجامع الصغير وزيادته، وضعيف الجامع الصغير وزيادته، بالإضافة إلى صحيح الكتب الأربعة (النسائي، الترمذي، ابن ماجة، أبو داوود)، وضعيفها.

وأما الثاني فالمحقق العراقي بشار عواد معروف العبيدي، وهو مفكّر ومؤرخ متخصص في تحقيق المخطوطات، حيث حصل على شهادة البكالوريوس، والماجستير، والدكتوراه في مجال التاريخ، أما نتاجه العلمي، المبني على التخصص في التاريخ والمخطوطات، فقد أَثْمر عن تأليف أكثر من سبعة عشر كتابًا، وتحقيق ما يزيد عن اثنين وعشرين كتابًا في أكثر من مائة وثلاثة وثلاثين مجلدًا ضخمًا، تعتبر من أمهات الكتب، كما نشر أكثر من ثلاثين بحثًا علميًّا، وراجع أكثر من أربعة وثلاثين كتابًا.

وأما الأمثلة المأخوذة من البيئة الغربية، فإن أولهما هي: الروائية البريطانية الشهيرة أجاثا كريستي، فإنها عند بلوغها سن الخامسة والثمانين كانت قد ألفت خمسة وثمانين كتابًا منها ستة وستون رواية بوليسية، وأربعة عشر مجموعةً قصصيةً. إضافةً إلى عددٍ من المسرحيات. بيع منها أكثر من ملياري نسخة على مستوى العالم.

ولذا فقد أدرجت موسوعة غينيس للأرقام القياسية أجاثا كريستي باعتبارها الروائية الأفضل بيعًا على الإطلاق، كما أن أعمالها تحلّ في المرتبة الثالثة في تصنيف الكتب الأكثر انتشارًا في العالم، بعد أعمال شكسبير والإنجيل فقط. ووفقًا لمؤشر الكتب المترجمة، تحتلّ كريستي المرتبة الأولى كأكثر كاتبة منفردة ذات أعمال مترجمة، بعد ترجمة أعمالها إلى مائة لغة على الأقل، ولذا فقد استند أكثر من ثلاثين فيلمًا من الأفلام الطويلة إلى رواياتها.

وأما الثاني: فهو المتحدث التحفيزي والمؤلف في مجال التنمية الذاتية، براين تريسي، الذي عمل فيما يقارب الثمانين دولة خلال ثمان سنوات، مرّ فيها على ست قارات في العالم، وألّف أكثر من سبعين كتابًا تُرجم إلى عشرات اللغات، كما حقق أربعين من تلك الكتب التي ألفها لقب (أفضل الكتب مبيعًا)، فضلاً عن عدد كبير من المقالات، والنصائح، والبرامج الإعلامية، التي ترجمت لأكثر من 24 لغة.

ولمعرفة أثر التركيز، فإن علينا أن نعلم أنه براين تريسي بتسجيل محاضراته الصوتية في مجال التنمية البشرية في عام 1981، وخلال خمس وعشرين عامًا أصبح لديه أكثر من ثلاثمائة برنامج تدريبي مرئي (فيديو)، كما أنه أصبح يقوم – في كل عام – بتدريب ما يزيد عن ربع مليون متدرب.

إن هذه النماذج المشار إليها ليست إلا عيّنات فحسب، وإلا فإن استعراض حياة الكثير من الناجحين والناجحات، سيثبت لنا جميعًا بأنهم اتخذوا قراراهم الحاسم بالتركيز، ثم انطلقوا نحو العمل المُركَّز رِدْحًا من الزمن، فظهرت آثار قرارهم نجاحًا وتميزًا.

أتمنى أن تثير هذه المقالة في أنفسنا الكثير، وأن تدفعنا نحو تتبع سبل النجاح والسير عليها.

دمتم بخير.

محمد بن سعد العوشن

@bin_oshan
20 - 8 - 2021


تم النشر في زد على هذا الرابط