أغسطس 14, 2020

نحو حياة منظّمة (سستم حياتك)!


تمتلك شركة ماكدونالدز الأمريكية الشهيرة للمطاعم أكثر من 31.000  فرعاً للوجبات السريعة في 121 دولة ويعمل فيها أكثر من 465.000 عامل، ويزورها 58.000.000 عميل يومياً!

وأياً كان البلد الذي تزور فيها ذلك المطعم العالمي فسوف تجد نفس التصميم، والشعار، والألوان، ونفس الطعم والرائحة، ونفس أسلوب التقديم، ولباس العاملين، ونفس إجراءات العمل، رغم تعدد اللغات والبلدان والأشخاص، وتفاوت الأفراد العاملين بشكل كبير للغاية. والشركة بذلك تحافظ على تكرار نفس التجربة بنفس معايير الكفاءة على مر الأعوام، مع التأكيد على وجود منهجية واضحة لنقل وتوريث ثقافة إعداد الطلبات بأقل وقت ممكن لكل العاملين في تلك المطاعم.

فما هو السر في تلك القوة الهائلة لتلك المطاعم على هذا الضبط، والتطابق؟
من المؤكد أن الأمر لا يعود إلى نوعية الأشخاص العاملين في الفروع، ذلك أن قدراتهم تتفاوت من فرع لآخر، ومن بلد لآخر، كما أنها يمكن أن تتفاوت من وقت لآخر حسب نشاط الموظف، وتواجده، فالشركة إذا لا ترتكز على الحماسة الفريدة للموظف والخبرة الموجودة لديه.

إن السر الذي يجعل تلك المطاعم بذلك المستوى من ثبات الشكل والجودة رغم كل المتغيرات، يعود إلى (وجود نظام "سستم") حيث تقوم شركة المطاعم بتحويل كل الممارسات – دون استثناء – إلى نظام مفصّل وواضح وإلزامي، ويتم التدريب عليه بشكل دقيق وحدّي، ولا يسمح حينها لأي موظف – مهما كان إخلاصه واجتهاده ومركزه – أن يضيف أو يغيّر أو يبتكر في الفرع الذي يعمل فيه، لأن ثمة إجراءات تفصيلية لأي تغيير، ويخضع الأمر لمركزية عالية، تقوم بالفحص والمراجعة، وحين يكون التعديل مناسباً ومهماً ، فإنه يتم إضافته للنظام، بحيث يتم التعديل آلياً على عشرات الألوف من الفروع.

إن التأمل في موضوع (السستمة) -كما يقال- يدعونا إلى التفكير جيداً في كيفية تحويل كل خبراتنا وآليات العمل لدينا من كونها ممارسة تلقائية، وتجارب شخصية، ومحاولات فردية تخضع لأمزجتنا وأوضاعنا ونشاطنا تحويلها لتكون أسلوب عمل معتمد ومستقر، يبقى إن بقينا وإن رحلنا، بل إن استنساخ العمل حينها ونقله إلى أي مكان يصبح أمراً يسيراً.

وفي سياق (السستمة) الشخصية نغفل عن وضع نظام ييسر ويضبط ما نقوم به، فإذا كان المرء معنياً بالقراءة مثلاً وتقييد الفوائد، فيجب أن يكون لديه نظام واضح وسهل ومطبّق لرصد الفوائد، وفهرستها، ومن ثم العثور عليها وتوظيفها، لا أن تكون قصاصات هنا، وتعليقات هناك، بعضها ورقي والآخر الكتروني، ويكون الوصول إليها وتنظيمها أحد معجزات الدنيا السبع على صاحبها فضلاً عن غيره من الناس.

وفي مجال الصحة الشخصية والأسرية، تأتي (السستمة) لتدفعنا إلى إيجاد نظام يضبط ويحدد مواعيد المراجعات والتطعيمات، والفحوصات الدورية، بالإضافة إلى آلية واضحة لحفظ التقارير الطبية، والشهادات الصحية، والتاريخ الصحي للعائلة بكل أفرادها، بما في ذلك أرقام الملفات، وهواتف الجهات الطبية التي تتم مراجعتها، والعمليات الجراحية التي تتم ونتائجها.

والحديث عن ذلك التنظيم (أو السستمة) في مجال صيانة المنزل، والسيارة، وفي مجال الرحلات والأسفار، وفي مجال التعلّم وتطوير المهارات، وفي مجال الوثائق والصور والتسجيلات، وغيرها وغيرها .. حديث يطول، غير أنه مهم كذلك.

إن من المهم أن يكون هذا الأمر – تحويل الأعمال إلى نظام عمل - محل نقاش داخلي، مع الذات في المجال الشخصي، ومع الأهل في المجال الأسري، ومع فريق العمل في المجال الوظيفي،  وأن يتم – فعلاً – وضع تلك الأنظمة التي تيسر العمل وتعين على استمراريته وتلقائيته، وتوفر الجهد والوقت في كل مرة .

وإن الحديث عن (السستمة) لا يعني إطلاقاً التعقيد ولا التكلفة ولا إضاعة الوقت، غير أن وجود النظام بمستواه اليسير هو الخطوة الأهم، ويتم تحديث النظام وترقيته مرة بعد أخرى وفقاً لنتائج استخدامه.

بقي أن أشير في ختام هذه التدوينة إلى أن الذي ألهمني لكتابة هذه التدوينة حديث رائع جميل للمدرب "رشاد فقيها" عن السستمة بوصفها أداة للنجاح ضمن حديث له عن التخطيط.

دمتم بخير 
16 - 12 - 1441 هـ

تم النشر في صحيفة تواصل على هذا الرابط 

أغسطس 08, 2020

هنيئاً لهم

 • هنيئا للذين يحدثون آثارا إيجابية حيثما كانوا، ولا يبحثون عن أعذار للتملّص، وهم يدركون أن الأعذار لا تنتهي..

هنيئاً للذين هم مشاعل هداية وسعادة ونفع، حيثما حلت ركائبهم.

هنيئا للقدوات، والنماذج الحسنة، الذين يتبع الناس آثارهم، ويحاكي الناس أفعالهم الخيّرة الحميدة.

هنيئاً للعاملين في مناطق الفراغ، المبتعدين عن المزاحمة والتكدّس، تاركي مناطق الراحة بغية إحداث التغيير الإيجابي في حياة الناس.


هنيئا لأولئك المبادرين بابتكار الأفكار الرائعة، التي يتبعها كثير من الناس، فيطبقونها، ويحاكونها، ويستفيدون منها.

هنيئاً للذين حين تبحث عنهم في محركات البحث، لا تجد عنهم إلا الخير، والذكر الحسن، والعمل الصالح.

هنيئاً للباذلين الكبار، الذين لا تجد لهم أي صيت إعلامي، ولا يعرفهم أحد، لكن الله يعلم صنيعهم، وهم لا يريدون إلا وجهه.

هنيئاً للمركّزين، المتخصصين، الموغلين بعمق في مجال اهتمامهم وشغفهم، فتجدهم يصنعون قيمة مضافة يندر وجودها حيثما عملوا.

هنيئاً للناذرين أنفسهم، وأوقاتهم، وعلاقاتهم، وأموالهم، في خدمة أهداف سامية تحقق مرضاة الله. والله لا يخزيهم الله أبدا.

هنيئا لمن قولهم «إحسان»، وفعلهم «إحسان»، ونواياهم «إحسان».


أغسطس 04, 2020

شبيه البحث العلمي


كثيرة هي البحوث التي تصدر بوصفها رسائل ماجستير ودكتوراه وبحوث ترقية، وتتناول جميع الموضوعات والشؤون المجتمعية في عناوينها!.

فحين تبحث في مكتبات الدراسات العليا فسوف تتفاجأ بحجم الدراسات عن الظواهر والسلوكيات المجتمعية، ومسببات المشكلات، وحلولها، وسوف تتأسف على عدم استفادة المجتمع من تلك البحوث الكبيرة الحجم، وتتعجب من تواجدها بشكل حصري في مكتبات الجامعات.
لكنك حين تفتح أوراق جملة غير قليلة من تلك الدراسات، وتبدأ في قراءة المضمون، وأنت في غاية التفاؤل بأنك ستجد فيها التشخيص الدقيق للواقع، ومعرفة الأسباب، والغوص في أعماق المشكلات، لأن تلك الصفحات الكثيرة لابد أن تعثرعلى جذور المشكلات وتتناولها بالتفصيل الممل .. وتتبعها بالحلول المتنوعة لتلك المشكلات..

وحين تقرأ ثم تقرأ سوف تصاب بالصدمة، والإحباط، وانخفاض مستويات التفاؤل، ثم تدرك حينها أنك أمام منتج وضع للحصول على شهادة، لكنه غير قابل للاستهلاك!

ستدرك أنها ليست بحوثًاً علمية وإن كانت في ظاهرها كذلك، لوجود مشابهة شكلية بينها وبين البحوث الفعلية المؤثرة والتي تخدم المجتمع..

ستشعر - فعلاً - أن الذي بين يديك ليس إلا "شبيه البحث العلمي" ! على وزن "شبيه القشطة"!

نعم ، يشابهه في تنظيم المحتويات، يشابهه في العناوين، يشابهه في وجود كم كبير من المراجع، مجرد شبه ( يخلق من الشبه أربعين) بحيث يظنه الضمآن ماء، حتى إذا أتاه لم يجده شيئاً.

إذ بات الاعتماد على الاستبانات - مثلا - سمة سائدة في أشباه البحث العلمي، وبتنا نحكم على المجتمع من خلال هذه العينات (اليسيرة)، التي تقوم بتعبئة الاستبانة ( بغير دقّة)، لتخرج منها (نتائج مشوهة)، هي في الواقع تحوم حول الحمى ولا تقع فيه.

ويتم ملء صفحات الرسالة بالكثير من الحشو والتجميع لنصوص وردت في أشباه أخرى للبحث العلمي، باعتبارها دراسات سابقة، يتم إقحامها بسبب أو بدون سبب، إذ أن الإشارة إليها ووجودها في شبيه البحث غير مؤثر، فهي مجرد زيادة في الصفحات، ومحاولة لإظهار الجهد الكبير الذي قام به الباحث، وهو جهد لا أنكره، لكن الذي أنكره هو النتيجة والخدمة التي تحققها تلك الدراسة.

السؤال المهم الذي يمكن طرحه على الباحث : ماهي الفائدة التي تم يجنيها المجتمع أو المتخصصون من رسالتك، باستثناء استفادة باحثين آخرين  منها في إضافة أسطر جديدة لفصل الدراسات السابقة!؟

وحتى تدرك أن الموضوعات محل الدراسة ليست ذات جدوى، فإن الباحث ينص في عنوان رسالته على ما ينبئ بذلك، أعني بعدم الفائدة! 

وحتى يتضح الأمر دونك هذا المثال ( وضعت العنوان من عندي حتى لا يؤخذ الموضوع بشكل شخصي) لأن أشباهه في الدراسات العليا كثيرة جداً ..

عنوان البحث ( أسباب تدني الأداء الوظيفي للموظفين من وجهة نظر المديرين) ، ثم يقول الباحث  أنه أجرى الدراسة على عينة من مديري المرحلة الثانوية بمدينة كذا!

فالدراسة إذا لم تكن على المديرين عموماً بل على مديري المدارس!
وهي لم تشمل موضوع البحث فعلاً بل اقتصرت على وجهة نظر أحد أطراف المشكلة وهم (المديرين)
ولم تكن لعينات ممثلة لمجتمع البحث بل اقتصرت على (مديري مرحلة واحدة من مراحل التعليم الثلاث)،
ولم تشمل كل مديري تلك المرحلة، بل اقتصرت على مديري مدينة من المدن، 
ثم هي حتى مع هذا الجزء من الجزء من الجزء .. اقتصرت على عينة منهم!

وهذ ه العينة غير الممثلة للمشكلة تم إعطاؤهم استبانة مصممة بطريقة لا تأخذ من الشريحة ما لديها، بل تحاول تأطيرها ضمن خيارات محدودة، وأسئلة افتراضية قام بها الباحث من تلقاء نفسه.. وجعلها وفقاً لخيارات غير واضحة ( حتى وإن وسموها بمقياس ليكرت الخماسي) وهو :  (موافق بشدة -  موافق - محايد - غير موافق - غير موافق بشدة).

فضلاً عن كون الاستبانة مصابة بلعنة المعرفة إذ تستخدم عبارات (تخصصية) لا يفهم معانيها من يقوم بالتعبئة، لأن الذي كتبها وراجعها موغل في التخصص فيكتبها لمن يعرف مثل معرفته! فيختار تخميناً للإجابات المتوقعة على أسلوب ( شختك بختك).

ثم يأتي الباحث في نهاية المطاف ليعرض لك نتائج تلك الاستبانة على هيئة رسوم بيانية مضللة، وموهمة، ومملوءة بالتناقض، وكأنه قد سحب لك الأسد من ذيله - كما يقال-.

إننا أمام مشكلة حقيقية :
فالعمل والتنمية والنجاحات على أرض الواقع منفصلة كلياً عن البحث العلمي بالجامعات، وبينهما سد عظيم كسد يأجوج ومأجوج.
فما أحوجنا إلى التداعي لإيقاف هذا الهدر وهذا النزيف الكبير للجهود والأموال والأوقات التي تذهب في غير طائل.

وأختم بأن حديثي هذا عن (كثير) من البحوث، والنظري منها خاصة، وإن كان في وسط تلك الظلمات بحوث مميزة، ذات تأثير، لكنها مثل الشعرة البيضاء في الثور الأسود.

فإن وجدت في نفسك شيئاً أيها القارئ الباحث من مقالي هذا، وشعرت أنه ينال منك ومن بحوثك، فربما كان ذلك مؤشراً على أنني لمست الجرح، فليس الحل في الهجوم عليّ بل في إدراك الواقع والسعي لتصحيح المسيرة، وليس العيب أن نخطئ، لكن العيب في أن نستمر في التبرير للخطأ والدفاع عنه.

وأنا أدرك كذلك أن المشكلة ليست في الباحثين، لأنهم - غالباً - وجدوا أنفسهم مضطرين للعمل وفق قالب جامد، ينتج منتجات غير مفيدة، ولم يكن أمام الواحد منهم إلا الاستمرار في هذا العمل غير النافع، لأنه الطريقة الوحيدة للحصول على مؤهل دراسي عالي.

فواجب الأقسام والكليات أن يعيدوا النظر في عملهم، ويراجعوا الأدوات، ويكفّوا عن التقليد والمحاكاة، وأن يكون حرصهم الأكبر هو في إحداث الأثر في المجتمع من خلال تخصصهم، وليس المزيد من الصفحات والأرقام والجهود وحملة الشهادات العليا فحسب.

دمتم بخير،،،
6 – 12 – 1441
الرياض

تم النشر في صحيفة تواصل على هذا الرابط