أكتوبر 28, 2019

عن المؤتمرات .. مرة أخرى

تحدثت في مقالة سابقة عن الملتقيات والمؤتمرات التي ينفق عليها الكثير، وهي لا تحقق الكثير! وهو حديث ربما لم يرق للبعض، لكنها وجهة نظر أرى أن الأيام والليالي تزيدني قناعة ويقيناً.
ولأن أحد الشبهات التي تتردد على المسامع (أن من أهم فوائد المؤتمرات والملتقيات تكمن في اللقاءات الجانبية والتشبيك أثناء الانعقاد)..

فإنني أود الإشارة إلى أن هذه الفائدة (المزعومة) تحصل تبعاً لا استقلالاً، كما أنها فائدة تخضع لطبيعة الحضور ومدى قدرتهم وحرصهم على القيام بهذا النشاط الجانبي، فليست متحققة بالضرورة، كما أنها لو كانت هي الهدف الأهم فإنها لا تتطلب كل هذا الإنفاق الضخم من أجل تحقيقها.

فإذا كان الهدف من المؤتمر والملتقى أن يتم جمع المهتمين والعاملين في مجال ما من أجل الإثراء المتبادل، والحوار الثنائي، ومناقشة التجارب، فإن أسلوب عقد المؤتمرات بصورته الراهنة لا يخدم هذا الأمر، ولا يشجع عليه، وأحياناً لا يمكّن منه، فالجدول مزدحم بأوراق العمل المتكاثرة والمتتالية، وأوقات الراحة المحدودة في فترة المؤتمر، فضلاً عن عدم وجود القاعات والجلسات الصغيرة المجاورة التي يمكن الاستفادة منها في هذا الأمر، وعدم وجود قاعدة بيانات بالحضور ووسائل التواصل معهم مسبقاً ليتاح للمشاركين فعلاً سهولة التواصل والتشبيك، وهي تدل على أن التشبيك فائدة غير مقصودة أصلاً!

ومن هنا فإنني أدعو الجميع إلى إعادة المراجعة والتأمل والدراسة لمدى أهمية إقامة الملتقى والمؤتمر فعلياً قبل اتخاذ القرار بإطلاقه، إذ يجب أن يكون الهدف من المؤتمر واضحاً جلياً، وأن تكون الشريحة المستهدفة واضحة كذلك، وأن نتأكد أن هناك ثماراً كثيرة لا يمكن تحققها إلا بعقد المؤتمر، وأن يكون لدينا الجرأة والشجاعة على إيقاف وتأجيل أو اختصار أو إلغاء المؤتمر حين يبدو أن حجم ونوع الأوراق المطروحة لا ترقى إلى أن تقدّم شيئاً ذا بال.

وأخيراً فإن التقنيات الحديثة اليوم قد قلبت المعادلة، وغيّرت الأساليب، فجمع الناس من أماكن متفرقة وبلدان متنائية، وجلوسهم في قاعات واسعة، ووجود منصة يصعد عليها المتحدثون، والسفر لأجل الحضور بكل معاناته، وتكاليفه، بات أسلوباً تقليدياً قديماً، فالتقنية – اليوم- قد أتاحت أن يتواصل الناس بشكل مسموع ومرئي عن بعد، وأن يتمكن مقدمو أوراق العمل من الحديث وهم في أقصى الأرض، كما أن التقنية أتاحت أن يستمع ويشاهد تلك المادة في الوقت ذاته ألوف الأشخاص بل مئات الألوف، مع تكلفة منخفضة، ومرونة في الوقت، وقدرة على إدارة التعليقات والتعقيبات، بالإضافة إلى أرشفة تلك المواد وإتاحتها للمستفيدين عند رغبتهم في سماعها أو العودة إليها لاحقاً.

لذا أتمنى :

أن أرى تقلصاً للمؤتمرات والملتقيات الحقيقية، وأن يكون التوجه إلى المؤتمرات والملتقيات الافتراضية،

 وأن يتم في الوقت ذاته عقد لقاءات التشبيك والتواصل بشكل يحقق نقل الخبرات وتبادلها، 

وأن يتم تقييم أوراق العمل بشكل حازم يستبعد بموجبها كل ورقة لا ترقى لأن تأخذ أوقات الحاضرين، وجهدهم، 

وأن يتم بكل بساطة تأجيل أو إلغاء المؤتمر أو تقليل جلساته أو اختصار وقته دون أي تحرّج من ذلك، 

وكلي أمل ورجاء أن يكون ذلك معلماً واضحاً مشاهداً في قادم الأيام.
دمتم بخير ،،،

محمد بن سعد العوشن
@bin_oshan
إعلامي مهتم بتطوير الذات والعمل الخيري

_______________________

تم النشر في صحيفة تواصل من هــنــا

أكتوبر 17, 2019

أقولها بصراحة :لا ملتقى .. لا مؤتمر !


 في كل عام، وفي كل مدينة، وفي كل جهة، تنطلق جملة كبيرة من الملتقيات والمؤتمرات التي تبدأ ولا تنتهي، فمن مؤتمر إلى آخر، ومن ملتقى إلى الذي يليه، فهذا الملتقى الأول، وذاك المؤتمر الأكبر، وهذا الملتقى الأوسع، وهذا المؤتمر المتخصص.. في سلسلة لا تكاد تنتهي، وفي شتى المجالات..
وحين ينتهي الملتقى والمؤتمر، فإن جهود الجهة والقائمين عليها تتوجه مباشرة إلى التفكير في الملتقى التالي، ولهذا يقترن اسم المؤتمر والملتقى بالرقم، وتتحول إقامة المؤتمر من مبادرة ذات هدف واضح جليّ – أحياناً- في بداية الأمر إلى واجب يجب القيام به سواء كان هناك شيء جديد يوجب إقامته أم لا، وتتحول مهمة اللجان العلمية للبحث بكل الطرق عن أي ورقة عمل يمكن أن تملأ بها أوقات المؤتمر.

ووجدت أن كثيراً من الجهات ترى أن من المعيب أن يتوقف اللقاء بعد سنوات من انطلاقه، مع أنني أرى أن شجاعة “الإيقاف” و”الإغلاق” لا تقل أهمية عن شجاعة “البدء” و” الإطلاق”

ورغم أني قد حضرت عدداً غير قليل  من الملتقيات والمؤتمرات المتنوعة الموضوعات، من التعليم، إلى التقنية، إلى الإعلام، إلى العمل الخيري، داخل المملكة وخارجها، إلا أنني وجدت – وبشكل واضح جلي- أن كثيراً من تلك المؤتمرات والملتقيات رغم كل تكاليفها العالية ( المالية، والبشرية، والزمنية) فإن جملة كثيرة منها – من وجهة نظري الخاصة – قليلة الإضافة، ضعيفة التأثير، محدودة الفائدة، فالساعات تمضي والقاعات تمتلئ بالحضور الذين تركوا أعمالهم ومهامهم (الأهم) طلباً للفائدة، كما أن المؤتمر يتطلب أحياناً سفراً وسكناً وتنقلات ووعثاء وجهداً، تضاف تلك التكاليف إلى تكلفة اللقاء ذاته خصوصاً مع كثرة المشاركين.

وتلك اللقاءات والمؤتمرات التي أتحدث عنها هنا وإن تقاربت في ضعف مخرجاتها وقلة فوائدها، إلا أنها متباعدة في الجهات التي تقوم بها، ومصادر تمويلها، وطبيعة الحاضرين إليها، ومع ذلك فكثير من الموضوعات المطروحة لا تقدم جديداً، وإنما هي تكرار للكثير من الأدبيات المنشورة سلفاً، والتي لا ينقصها العناوين المثيرة الجذابة التي تظن أن من ورائها محتوى جاذباً كذلك، وإذا هي مما يصدق فيه قول القائل (تسمع بالمعيدي خير من أن تراه).

أما التوصيات الصادرة عن تلك المؤتمرات والملتقيات، فهي مجرد (بروتوكول) يتم فعله لأن الآخرين فعلوه، ولأنه لا يصلح أن يعقد مؤتمر دون توصيات!، لذا فهي توصيات لم يتفق عليها أحد، ولم تناقش بشكل جماعي، ولا تعدو أن تكون أمنيات ومقترحات من بعض مقدمي أوراق العمل، أو بعض القائمين على المؤتمر، يتم كتابتها وارتجالها على عجل، دون أن تكون مدروسة فعلاً، ويتم اختتام المؤتمر بقراءة تلك التوصيات على الجمهور باعتبارها انتصاراً ونجاحاً عظيماً، ثم تذهب تلك التوصيات أدراج الرياح مع خروج آخر الحضور من القاعات الفندقية الفخمة.

وختاماً .. فإن ما ذكرته هنا يعبّر عن وجهة نظري (الخاصة) حول الملتقيات والمؤتمرات، وأتقبل بصدر رحب اختلاف الكثيرين معي، وأن يكون هناك وجهات نظر مختلفة، وجوانب للمشهد مختلفة كذلك، ولأنني لا أعمم تلك الأحكام على (كل) الملتقيات والمؤتمرات، فإنني حضرت ولا زلت أحضر عدداً منها إن غلب على ظني الاستفادة من الأوراق أو مقدميها أو من المشاركين، خصوصاً لمن جرت العادة أن فريق العمل في إعدادها يحرص على رفع مقاييس الجودة فيما يطرح.

وللحديث صلة في مقال قادم بإذن الله، دمتم بخير،،،

محمد بن سعد العوشن

@bin_oshan

إعلامي مهتم بتطوير الذات والعمل الخيري

تم النشر في صحيفة تواصل من هنـــا

أكتوبر 12, 2019

يا صديقي .. لقد تغيّرت !

لم أنسَ على الإطلاق موقفاً مع الشيخ عبد العزيز بن عبد الله الدويش رحمه الله رحمةً واسعة، والذي كانت بيني وبينه صحبة وصلة، لكنها صحبة التلميذ الذي هو أنا لمعلمه وأستاذه وشيخه، إذ بينما كنا في رحلة بريّة أمضينا منها يوماً وليلة، أخذ بيدي، وخلى بي، ثم قال لي: (يا محمد، ألاحظ عليك البارحة شيئاً من الأرق، ولم تنم -كعادتك -بشكل سريع، وكنتُ قد عهدتك تخلد إلى النوم حين تضع رأسك على الوسادة، وما رأيته البارحة كان على خلاف ذلك، فهل وقع لك شيء ينغص عليك، أم أن لديك مشكلة تستوجب البحث عن حلّ؟).
فأجبته – حينها-أن ليس شيء من ذلك كله، لكنني لم أكن بحاجة إلى النوم حين أويت إلى فراشي، فطال مكثي فيه، وهو أمر غير معتاد، فحمد الله تعالى وأثنى عليه، ثم قال: (يا محمد، احرص -قبل نومك -أن لا تكثر من التفكير المتعمق، والتحليل والتفسير لما قال هذا أو قال ذاك، فإن ذلك مدعاة لأن يصيبك الأرق، فيتنكد عليك عيشك، فعش متسامحاً ولا تدقق على كل ما يقال)، وقد التزمت وصيته التي أوصاني بها منذ ثلاثة عقود، وانتفعت بها جداً، ولا زلت أذكر حديثه – رحمه الله -وكأنه البارحة.
وشاهدي من هذه القصة أنه حين رأى -وهو المربي القدير -شيئاً من التغيّر لم يسكت، بل بادر مستفهماً، وناصحاً، ومحفزاً، وموجهاً.
وأنت أيها القارئ الكريم. لربما التقيت بأحد أصحابك، وقد بدا لك جلياً أنه لم يعد صاحبك الذي تعرف، وأن ثمة تغييرات حقيقية قد أحسست بها، فماذا فعلت؟
الواقع أن الواحد منا يلتقي بين فينة وأخرى بأشخاص متنوعين، وتتباين عدد مرات اللقيا ومدة كل لقاء بين شخص وآخر، حسب طبيعة العلاقة التي تربطك بهم نوعاً وكيفاً وزماناً، لذا كان من الطبيعي أن لا تلاحظ في اللقاءات العابرة تغييراً في سلوكهم أو تصرفاتهم، إذ أن المجاملات – غالباً – تكون سيدة المواقف القصيرة، فلا يظهر المرء للناس إلا أفضل الوجوه، وإنما يكتشف ويدرك التغيّر الذي وقع للمرء من كانوا يعرفونه جيداً، ويدركون تفاصيله الجسدية والنفسية، ويتابعون هيئته ولباسه، ويعلمون اهتماماته وتفضيلاته وحكاياه، فيشعرون أن فلاناً اليوم ليس كما كان سابقاً، يدركون الخلل، ويدركون التميز في الوقت ذاته.
والذي يهمني الحديث عنه هنا هو الجانب الأول، وهو التغير السلبي الذي يطرأ على البعض بشكل تدريجي، إذ إنه ما لم يكن للصديق والقريب دور حقيقي في إشعار الطرف الآخر بهذا التغير حين حدوثه، والتنبيه إلى البدايات منذ وقوعها، فلا نتوقع أن يكون ذلك من الشخص البعيد الذي لا تسمح له طبيعة العلاقة ولا وقتها بالدخول في التفاصيل، بل لربما اعتبر دخوله تطفلاً غير مقبول.
إننا نحن القريبون والأصدقاء الخلّص مسئولون عن تقديم النصيحة، وإبداء الملاحظة، وسؤال الطرف الآخر سؤال المحب المشفق – لا الفضولي – عن سبب التغير الناشئ، بل والوقوف معه، والعمل – بكل حب – للمساهمة في دلالته وإرشاده وتوجيهه وتوعيته بمظاهر التغير التي طرأت، وتأثيراتها، والسعي الجاد معه لوضع الحلول، ومتابعة تنفيذها حتى يتخطّي هذه الأزمة أو المشكلة التي يعاني منها، وهنا يتبين دور الصديق فعلاً، حيث يصدق صاحبه، ويمحض له النصيحة، لا يرجو من ذلك مصلحة، ولا جزاء ولا شكوراً، وفي حديث تميمِ بن أوسٍ الدَّاري – رضي الله عنه – أن النبيَّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – قال: (الدِّين النصيحة)، قلنا: لِمَن يا رسول الله؟ قال: (لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمَّة المسلمين، وعامَّتِهم)، وقد قال النوويُّ – رحمه الله – عن هذا الحديث: “هذا حديثٌ عظيم الشَّأن، وعليه مَدارُ الإسلام… وأمَّا ما قاله جماعاتٌ من العلماء أنَّه أحدَ أرباعِ الإسلام؛ أيْ: أحَدُ الأحاديثِ الأربعة التي تَجمع أمورَ الإسلام، فليس كما قالوه، بل المدارُ على هذا وَحْدَه”.
ولعل الزوجة والأبناء والإخوة والأخوات والوالدين هم أقرب الناس لبعضهم البعض، فهم أحوج ما يكونون لتقديم ملاحظتهم الصادقة لمن يحتاج إليها من عائلتهم، ذلك أن المتورط في المشكلة قد لا يلاحظ آثارها، وقد لا يدرك حجم أضرارها، وقد يكون منشغلاً بالتعاطي معها فيغفل عما سواها، فيقصّر ويهمل ويتغيّب.
فما أحوجنا جميعاً إلى أن نتحلى بالجرأة التي تدفعنا لمكاشفة أحبتنا بأي شيء نراه وهو ينقص من قيمتهم، أو يضر بهم، أو يضعف تأثيرهم ودورهم، أو يقلل من فرص نجاحهم.
وغير خاف على القارئ الكريم أن ذلك كله يكون بالأسلوب المناسب، والوقت المناسب، وفي حديث خاص وليس تشهيراً أمام الناس، فذلك مدعاة للقبول، وسبب في تحقيق الأثر، وهو هدف الناصح ومراده وباعثه.
رزقنا الله الناصحين من الأحبة، الذين يبصروننا بعيوبنا، ويساعدوننا بكل حب على تغييرها، وجعلنا ممن يمحض النصيحة لأصحابه، فنكون -بعد الله -خير معين لهم على النمو والارتقاء، والتحسين المستمر طيلة الحياة، ونكون قيمة رائعة في حياتهم، فالمرء قليل بنفسه، كثير بإخوانه.
دمتم بخير

محمد بن سعد العوشن
إعلامي مهم بتطوير الذات والعمل الخيري
@bin_oshan

تم النشر في صحيفة تواصل من هـــنـــا

أكتوبر 12, 2019

أحلامنا الضعيفة الهزيلة !

تأملت في حالي وحال كثير من الناس الذين أراهم وأتابعهم هنا وهناك، فألفيتنا لا نطمع في أحلامنا إلا بشيء من التحسين النسبي اليسير لواقعنا الذي نعيشه! وأننا نتورع عن الأحلام الكبيرة..
 بل ولسنا نعطي للحلم وقتاً!
وإنني لأتساءل بكل جدية:
لماذا تقصُر هِمّتنا حتى في نطاق “الأحلام والأمنيات” فلا نذهب فيها بعيداً عن واقعنا الحالي!،
ونكون فيها متواضعين جداً!
وأنا هنا لا أتحدث عن “القناعة” التي هي كنز لا يفنى، فذلك أمر محسوم في كيفية التعامل مع الواقع الحالي، لكنني أتحدث عن المستقبل الذي لم يقع بعد، ويمكننا – بتوفيق الله- أن نغيّر فيه الكثير.
إن ‏”الأحلام والأمنيات” تتحول إلى واقع ملموس، وإلى حقيقة مشاهدة، متى كانت تلك الأحلام واضحة لنا، والهمّة موجودة لدينا، وبدأنا السعي الجاد لتحقيقها، غير أننا -في أحيان كثيرة- غارقون في الواقع، منشغلون بمجرياته اليومية، لا نفكر خارج الصندوق، ولا نشعر بأي مشاعر سلبية تجاه هذا الصندوق الممل المعتاد.
إننا اليوم مستعدون لإعطاء الكثير من الوقت والجهد للحالة الراهنة، والوضع القائم، والسعي لحل المشكلات الحالية، والانهماك في “الآن”، في الوقت الذي نبخل فيه بساعات محدودة للتفكير الاستراتيجي الإبداعي الخلاّق حول “الغد”.
‏كم نحن بحاجة – لكي نحدث قيمة مضافة في أعمالنا، وفي مجتمعاتنا، وفي أنفسنا، وفي أهلينا- إلى من ينتزعنا من أسر الواقع إلى أفق المستقبل..
‏نحتاج إلى من يرفع راية التغيير والتجديد والتطوير والتحسين، ومن يقنعنا أن نعمل على ألا يكون الغد نسخة مكررة من اليوم، بل شيء مختلف كلياً، ولا أعني بـ”الغد” اليوم التالي لهذا اليوم، ولكنه الشهر التالي، والسنة التالية، والجزء المتبقي من حياتك.
إننا بأمسّ الحاجة إلى من يتبنى الإبداع تنظيرا وتطبيقا على أرض الواقع، وليس من خلال الحديث عن الإبداع والتغني به فحسب.. نحتاج إلى من يصرخ في جموع المعتادين: توقفوا قليلاً وتأملوا، فربما كانت هناك طرق أفضل، أو أيسر، أو أقل تكلفة وجهداً مما تعملون.
والواقع يشهد بأن كثيراً من النجاحات المبهرة، والأفكار الإبداعية لم تكن وليدة الانهماك، بل وليدة التفرّغ لهذه المهمة “المهمة”، وخاصة أن الذين لديهم القدرة على “العمل” كثير، أما الذين لديهم القدرة لفتح الطرق الجديدة، وخوض التجارب المختلفة، وإيجاد الأفكار الخلاقة هم فئة قليلة من الناس، وليس ذلك بسبب قدراتهم العقلية، لكنه بسبب قدرتهم على انتشال أنفسهم من “الانشغال بالعمل” إلى “الانشغال بالتفكير”، وإلا فإن كثيراً من المجددين المغيرين المطورين الذين هم قدوة في هذا المجال ليس لديهم قدرات عقلية خاصة، ولا مهارات ذهنية مختلفة.
إن الوصول إلى “الأحلام المتميزة” لا يحصل بالانهماك في المجريات والمهمات اليومية، وإنما يحصل بالدعوة الجادة إلى التفكر والتأمل المنتظم في الواقع الذي نعيشه، والنتائج التي توصلنا إليها من خلال سعينا الماضي، ومن خلال جلسات العصف الذهني المدارة باقتدار، والتي يشارك فيها أشخاص مختلفون عن السائد، مع استخدام كافة الوسائل والتقنيات والأساليب التي يمكنها – فعلاً – أن تنتشلنا من الغرق في الواقع إلى التحليق في المستقبل، بالإضافة إلى تخصيص أوقات للتأمل، والتفكّر، والمراجعة، وأن تكون تلك الأوقات المعطاة هي “أفضل الأوقات” لا “فضولها”.

إذا غامرت في شرف مروم * فلا تقنع بما دون النجومِ
فطعم الموت في أمر حقير * كطعم الموت في أمر عظيمِ

وما دامت الأحلام بالمجان، والطموحات لا حدود لها، والأساليب أكثر من أن تحصر.. فما الذي يجعلنا ملتزمين بالأحلام الهزيلة، بعيدين عن أحلام الكبار الذين يطمحون إلى تغيير الكون برمّته، ويجاوزون بأفكارهم كافة الحدود البشرية والمالية والجغرافية.

وإذا كانت النفوس كباراً * تعبت في مرادها الأجسامُ

دمتم بخير ،،،

محمد بن سعد العوشن
إعلامي مهتم بتطوير الذات والعمل الخيري
@bin_oshan

تم النشر في صحيفة تواصل من هــنــا

أكتوبر 12, 2019

مقاومة التنمّر الإلكتروني

تحدثت في تدوينة سابقة عن أولئك المتنمرين الذين اتخذوا من شبكات التواصل الاجتماعي، منصة لإطلاق حملاتهم المشبوهة والمشينة على الجهات والأفراد، وأن كثيراً من الناجحين والمنجزين والمؤثرين كان ضحية لتلك الهجمات التنمرية.. وأتحدث اليوم إلى المتنمر عليهم، مقتبساً جملة من المقترحات للتعامل مع ذلك التنمر حال وقوعه.


وعوداً على "تيم فريس" صاحب كتاب (أدوات العظماء) الذي نال حظاً وافراً من غزوات البلهاء عليه واتهامه بكل نقيصة، لأنه ألف كتاباً رائعاً وكتب مقالات إيجابية، فقد تحدث "تيم" عن جملة من الوصايا الجميلة حول التعامل مع أصحاب الحملات المسعورة، ويشير إلى أن من المهم أن تركّز – أيها المتنمر عليك- عند الحديث والكتابة ونحوها على (القلة) من المعجبين بالطرح، المهتمين به، واعتبارهم أقوى قوة تسويقية لك، وأنه يكفي إعجاب ( ألف ) شخص بفكرتك، فلا يهمّ بعد ذلك أن يوافقك بقية ملايين البشر أو يختلفوا معك، كما يشير"تيم" إلى أن وجود 10% من المعارضين هو أمر طبيعي، وأن توقع ردّات الفعل السيئة من أولئك، يعين على تجاوزها وعدم الضجر منها، كما يشير إلى أن الاستجابة الأفضل والأنجع للنقد الجارح على الإنترنت تكمن في فصل الأكسجين عن ذلك الرد بتجاهله وعدم التجاوب معه، فـ(الحقران يقطّع المصران) كما يقول المثل الشعبي السائد،

إذ أن الردّ في الكثير من الأحيان يعلي من شأن المردود عليه، ويعطيه شعبية لا يستحقها، ويثبتّ رده، وبرغم أن البقاء صامتاً في وجه أولئك الحاقدين يعدّ أمراً صعباً؛ إلا أنه أكيد المفعول في تهميشهم وتقليل تأثيرهم، وهذا لا يمنع من الرد على بعض الحجج إذا كانت حججاً منطقية وبدا أن صاحبها ينطلق من البحث عن الحق لا مجرد اللجج، كما أنه من المفترض أن لا تبالغ في الاعتذار حين تقع في الخطأ، فالاعتذار والتراجع عن الخطأ محمدة، لكن لا تبالغ في ذلك وتطيل الحديث عنه في كل مرة، ولتتيقن أن كل الحجج العقلية لا تفيد في نقاش شخص اعتنق فكرة ما بغير عقل، بل لمصلحة أو مواقف شخصية أو مآرب خاصة، وأن تدرك أن محاولة جعل الجميع "يحبونك" يعني أن تكون خالياً من اللون والطعم والرائحة، وهو ما يعتبر في الحقيقة نوعاً من الدونية، ويوصي "تيم" بالابتسامة والرضى حين يظن الآخرون بأنك أحمق وغبي لأنك لم تكن أمعة مثلهم، وأن ذلك يعتبر شهادة إيجابية لك على أنك "مستقل" بفكرك عن القطيع. وأخيراً يوصيك وأوصيك معه : بأن تعيش بسعادة، عيشاً كريماً وفقاً لقيمك ومبادئك ودينك، وأن تهتم بأولئك القلة الذين يباركون أفعالك وأقوالك الجميلة، ولا تنشغل كثيراً بالبقية.

إن الدخول على شبكة الإنترنت والاشتراك في شبكات التواصل – اليوم -  لا يعني الدخول إلى مجلس علم وفكر وثقافة، بل إلى المجتمع بكل تفاصيله، فتجد الأسوياء وغيرهم، وتجد الكبار وغيرهم، وتجد العقلاء وغيرهم، وتجد  المحترمين وغيرهم، بل يمكن لبعض المبتلين بأمراض عقلية أو حالات نفسية خطيرة، ويمكن للحمقى والمغفلين والسطحيين والموسوسين وأصحاب الظنون السيئة، يمكنهم جميعاً الدخول والتسمي بأي اسم يبدو حقيقياً أو وهمياً، ويمكنهم أن يضعوا صورتهم أو يسرقوا صورة غيرهم، ويمكنهم أن يمنحوا أنفسهم أي لقب أكاديمي أو وظيفي، ثم يتحدثون في كل قضية ويردون على كل أحد! وقد يتبين أن وراء ذلك المعرّف المزعوم .. غلام لم يبلغ الحلم، ولم يكمل الدراسة، ولم يفلح في شيء.

وأختم هنا برسالة مهمة..
رسالة شكر وتقدير وتهنئة وإجلال لكل الصامدين على مبادئهم، الثابتين على قيمهم، الذين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، الذين يبتغون ما عند الله والدار الآخرة، الذين يقدّسون النص الشرعي، ويقفون عنده، الذين يعظمون شعائر الله في نفوسهم وفي نفوس من يؤثّرون عليه، الذين لا تزيدهم تلك الحملات التشويهية إلا ثباتاً وإصراراً ومقاومة، (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، فزادهم إيمانا، وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل) .

دمتم بخير،،،

محمد بن سعد العوشن
إعلامي مهتم بتطوير الذات والعمل الخيري
@bin_oshan

تم النشر في صحيفة تواصل هــنــا