يونيو 20, 2019

هواوي على شفير الهاوية

أعلنت شركة جوجل عن وقف توفير نظام أندرويد لتشغيل الهواتف الذكية على أجهزة هواوي الصينية، والذي يعني - في الأصل- انهياراً تاماً للشركة المستهدفة، لأن أجهزتها المحمولة تعتمد كلياً على نظام أندرويد "المفتوح المصدر".
 غير أن شركة هواوي أثبتت – وفقاً لما هو معلن – عن وجود سلاح ردع قوي لدى الشركة، حيث كانت تعمل جادة لإيجاد نظام تشغيل خاص بهواتفها، وكانت تحضّر -منذ سنوات- لاحتمال فقدانها القدرة على الوصول للبرمجيات والخدمات  التي تقدمها الشركات الأمريكية الكبرى، مثل جوجل ومايكروسوفت.

وعملت هواوي على تطوير نظامها التشغيلي الخاص والذي من المتوقع أن يدعم جميع الهواتف الذكية و الأجهزة اللوحية، بالإضافة إلى الأجهزة الأخرى كالتلفاز و الساعات الذكية و الحواسيب، وقد أشار مؤسس شركة هواوي إلى أن الشركة توقعت حصول معظم هذه السيناريوهات واستعدت لمثل هذه التحديات، غير أن الجديد في الأمر هو (التسارع الكبير) في وتيرة الأحداث ومستجداتها على أكثر من صعيد.
إنني لا أقرأ الخبر بصيغته التقنية على الإطلاق لكنني أراه خبراً غير عادي في الجانب السيادي للمجتمعات والدول!، واعتبره مؤشراً واضحاً وخطيراً على قدرة الشركات العابرة للقارات - من تلقاء ذاتها، أو بالضغط الحكومي عليها- أن تقطع شرياناً رئيسياً عن بلد ما أو شركة محددة أياً كان حجمها ودورها!
إذ بينما تتمتع المجتمعات المختلفة بالتقنيات الحديثة "المستوردة"، والبرمجيات المتقدمة "العالمية" التي تصل إليه بثمن معقول، يكون هناك تواجد ضعيف، لبعض المنتجات المحلية والإقليمية الأقل مزايا وموثوقية، وفي الوقت ذاته تخوض الشركات العالمية حرباً شرسة لإنهاء المنافس، وضرب الأسواق، مما يضطر الكثير من شركات التصنيع والبرمجة المحلية، إلى التخلي عن المنافسة في هذا السوق الذي لا يرحم، وهو ما يدفع الطاقات المميزة في تلك المجالات التقنية إلى التفكير بكل جدية في الانضمام لتلك الشركات العالمية، والتحول من السعي للمنافسة إلى التحوّل إلى ترس صغير في ماكينة ضخمة، وتصبح كل تلك الطاقات الإبداعية المحلية "داعمة ومفكرة ومبتكرة وعاملة" جزءاً منها، وتعمل في بيئة تحفّز على الإبداع، وتكافئ عليه، وتعطي مرتبات عالية مضمونة بدلاً من العمل المحلي غير المنافس.
وتكون النتيجة الطبيعية لمثل تلك الممارسات - في ظل قلة الوعي الكافي لدى المجتمعات- أن يكون زمام الأمر بيد "الغريب"، وتكون المجتمعات مرهونة في كافة نواحي حياتها إلى القرار "الخارجي"، وهو ما يعني أن بأيدي تلك الدول "الكبرى" جميع خيوط اللعبة، وأن قراراً واحداً - حكيماً أو سقيماً - يمكنه أن يشل حركة المجتمع في أحد جوانبه!
ولكي نتصور حجم المشكلة ولو بشكل يسير، لنتخيّل أن شركة مايكروسوفت -مثلاً - قررت أن توقف عمل نظام تشغيل ويندوز أو برامج الأوفيس في أحد البلدان، وأنه منذ أن يتم اتصال الجهاز بالإنترنت فإن الشركة تصل لتلك التطبيقات وتوقفها عن العمل، فكيف ستسير الأمور في تلك الدولة المستهدفة؟
ولنتخيّل - كذلك- أن شركة واتساب أو تويتر أو يوتيوب أو فيسبوك قررت -فجأة- حجب برامجها مواقعها عن إحدى الدول! وكيف سيتسبب ذلك في انقطاع التواصل بشكل كبير، ويؤثر على الكثير من مجريات الحياة، ويحدث شللاً كبيراً داخل المجتمع، وتعطيلاً للكثير من الأعمال، وهدراً للأموال والأوقات والجهود.
ولهذا فأنا أنظر بعين الريبة وعدم الارتياح لعمليات الاستحواذ التي تمت قريباً، كاستحواذ أمازون على سوق دوت كوم، واستحواذ أوبر على كريم، لأنني أراها افتراساً لمشروعات محلية بدأت في أخذ حصة سوقية ممتازة، وأخذت تنافس تلك الشركات العالمية محلياً..
ولعل أحد القراء الكرام - وقد قطّب جبينه - يتساءل بحنق: وما المطلوب منّا؟ هل نترك هذه التطبيقات المميزة، والأجهزة الرائعة، لنبقى في إطار التجارب المحلية الضعيفة تحّوطاً من تلك المخاطر التي قد تقع وقد لا تقع؟
وإنني إذ أتفهم هذا السؤال - جداً- وأدرك بواعثه، فإنني أود الإشارة إلى أنني لست أطالب على الإطلاق بترك الأجود، واللجوء إلى البرمجيات المحلية الصنع ولا الأجهزة كذلك لعموم المستخدمين، لكنني أؤكد على أهمية بقاء المنافسة، وإعطاء المنتج المحلي فرصة للنمو والترعرع -ولو على نطاق محدود- بهدف استخدامه إن نجح، واللجوء إليه عند الحاجة وليس باعتباره - اليوم - قادراً على تلك المنافسة بالضرورة، مع أنني أثق أن لدينا من القدرات الشابة من يمكنهم صنع المستحيل، ولنا في تجربة "سابك"، و"علم" وأمثالهما والنجاحات الضخمة المتحققة منهما بالكوادر الوطنية ما يؤكد ذلك.
وحتى لو كانت المنتجات المحلية أقل وأضعف، فيجب ألا نطلق عليها رصاصة الموت، بل نبقيها لتكون مثل المولّد الاحتياطي الذي يستخدم عند الطوارئ، ومثل إيجاد البدائل للإضاءة الكهربائية، من أجل الاستفادة منها في حال وقع انقطاع مفاجئ للتيار الكهربائي، فلو طال ذلك الانقطاع أياماً، فإن البدائل جاهزة، مدعومة، مجرّبة، مطوّرة، فإن عادت الكهرباء سريعاً لم يضرنا وجود البديل، وإن تأخرت عودتها وطال الانقطاع، لم تتوقف الحياة أو تتعطّل بسببها.
إننا -والحديث هنا للجميع - مطالبون بإتاحة الفرصة لنمو المنتجات المحلية، والسعي لتشجيعها، وتعزيز مبادراتها، وتحمّل إخفاقاتها، ومطالبون في الوقت ذاته بعدم الارتهان لأي جهة (دولة أو شركة أو نظاماً)، وأن ندرك أن المنتج المحلي (الأقل تقدماً) سيكون أحد أسلحة الردع التي نستخدمها في مواجهة الابتزاز الذي يمكن أن نتعرض له يوماً ما، وسيجعل "الآخر" يفكّر كثيراً قبل أن يتجرأ على أي خطوة تصعيدية في هذا المجال.
خصوصاً أن لدينا - اليوم - من الموارد المالية، والطاقات البشرية المميزة، والوعي، ما يجعلنا قادرين اليوم على التوسّع في صنع البدائل، والسعي - دون ضغط الحالات الطارئة - للبناء المتأني والمتقن في مجال التقنية، والأجهزة، والتصنيع.
كما أن رؤيتنا الوطنية تتضمن (أن نصنّع نصف احتياجاتنا العسكرية على الأقل محلياً)، و(أن نكمل بناء بلادنا لتكون مزدهرةً قويةً تقوم على سواعد أبنائها وبناتها وتستفيد من مقدراتها، دون أن نرتهن إلى قيمة سلعة أو حراك أسواق خارجية).
فما نحن فاعلون؟
دمتم بخير.

محمد بن سعد العوشن
إعلامي مهتم بتطوير الذات والعمل الخيري
@bin_oshan

تم النشر في صحيفة تواصل هــنــا

يونيو 03, 2019

فُرِجَت وكنت أظنها "قد" تُفرَجُ

في الرابع والعشرين من شهر رمضان 1440هـ، دشّنت وزارة الداخلية مبادرة (فرجت) وهي منصة رقمية رسمية موحدة من أجل مساندة المحكومين بالسجن بسبب عجزهم عن سداد ما عليهم من حقوق مالية، حيث تسهّل المنصة عملية الإفراج هن هؤلاء من خلال تواصل مباشر ودقيق بين الجهات ذات العلاقة، (المتبرع، المصرف، إدارة السجون، المحتاج).
وجاءت خدمة (فُرجت) باعتبارها خدمة جديدة تضاف لسلسلة الخدمات الإلكترونية الرائعة لوزارة الداخلية في منصة (أبشر) التي أحسنت في توظيف التقنية بشكل فعّال، ولا يسع المرء إلا أن يشكر ويبارك هذه الخطوة الرائدة والمميزة.

ومن المهم عند الحديث عن (الإفراج عن السجناء)، الإشارة إلى أن هذه لم تكن أول مبادرة في هذا السياق الخيري في بلدنا المباركة، حيث سبق أن أصدر مجلس الوزراء في المملكة قراراً عام 1422هـ بإنشاء لجنة وطنية لرعاية السجناء والمفرج عنهم وأسرهم (تراحم)، ينبثق عنها لجان فرعية لرعاية السجناء بالمناطق، ثم قامت وزارة الشؤون الاجتماعية بإعطاء تصاريح لتلك اللجان في مناطق المملكة المختلفة.

وقامت تلك اللجان - طوال السنوات الماضية - ولا زالت تقوم بأدوار كبيرة في مجال العناية بالسجناء وأسرهم، ويشمل ذلك رعاية أسرة السجين، وسداد إيجارات منازل تلك الأسر، والسعي للإفراج عن المسجونين بسبب المطالبات المالية.

وفي عملية تكشيف سريعة حول موضوع "الإفراج عن السجناء" وجدت جملة الأخبار التي هي غيض من فيض، وهي تؤكد على أن هذا المجتمع (أفراداً وجمعيات ومسئولين) يسعون في هذا العمل الخيري دون انتظار الشكروالثناء من أحد.

ففي عام 2006 أفرجت المديرية العامة للسجون ليلة عيد الأضحى عن ثمانية وأربعين سجيناً من سجناء الحق الخاص بتبرع من مؤسسة الجميح الخيرية، وفي 2010 ساهمت مؤسسة السبيعي الخيرية بإطلاق سراح 30 سجينا، وفي 2014 كانت تبرعات فاعلي الخير قد أطلقت سراح ٢٨٠ سجيناً ، وفي 2016 قامت أوقاف صالح الراجحي بمنح 10 ملايين ريال لـبرامج (تراحم)، ومنها : برنامج تسديد مديونيات السجناء، وفي العام ذاته انطلقت حملة لتفريج كربة 100 سجين بحائل، بالشراكة مع (تراحم حائل) وعشرات المشاهير، وفي العام التالي انطلقت حملة (تراحم الطائف) لإطلاق سراح 70 سجينا ب 6 ملايين، وفي عام 2018 أفرجت (تراحم حائل) عن 54 سجيناً بما يزيد عن 4 مليون ريال، وساهمت حملة (تراحم الرياض) في النصف الأول من العام ذاته في الإفراج عن 129 نزيلاً كما أطلقت (تراحم الباحة) في العام نفسه سراح 23 من السجناء بمبلغ يزيد عن 4 ملايين ريال، وهذه ليست (كل) الأخبار بطبيعة الحال، وإنما هي ( جزء يسير) منها.

ولم يكن الإفراج عن السجناء مقتصراً على لجان (تراحم)، بل إن الجهات الخيرية المختلفة ورجال الأعمال وأمراء المناطق، وعدد من الإعلاميين، يبذلون في المجال ذاته، فضلاً عن الأوامر الملكية الكريمة التي تصدر دورياً بالسداد عن المعسرين وفق ضوابط مهمة ودقيقة، ويدرك الإخوة الفضلاء في (المديرية العامة للسجون) حجم تلك المشروعات وآثارها الحميدة، فالعمل على الإفراج عن السجناء ليس عملاً جديداً وإن ظنّ البعض أنه كذلك.
كما أن عدداً من مشاهير شبكات التواصل أطلقوا قبل ذلك مبادرة للإفراج عن السجناء في الحقوق المالية في القصيم، ثم كررت المبادرة في 47 مدينة ومحافظة، وتم الإفراج من خلالها عن 1414 سجين، بمبلغ يتجاوز 62 مليون ريال.

قد تنكر العين ضوء الشّمس من رمد ... وينكر الفم طعم الماء من سقم

وفي ختام حديثي عن هذه المبادرة المميزة (فرجت) فإنني أود الإشارة إلى أن العجب لا ينقضي من فئام محدودة من راغبي الظهور الإعلامي، الذين بدلاً من قيامهم بالتركيز على مباركة هذه الخطوة، والدعوة لمواصلة توظيف التقنية بشكل فعال، وجّهوا أقلامهم وسهامهم، وأصابع اتهامهم ولومهم وتشكيكاتهم لقطاع عريض من الجهات الخيرية التي اعتبروها مقصّرة في أداء هذه المهمة، معتبرين أن مجال الإفراج عن السجناء مجال مهم و لم يعمل فيه أحد!.

وما علم أولئك أن الجهات الخيرية كانت ولازالت تقوم بعمل عظيم في هذا الشأن – تحديداً وفي الأخبار المذكورة في صدر مقالي هذا ما يثبت ذلك، كما أن عملية الربط الإلكتروني بين بيانات الموقوفين في القضايا المالية والبنوك هي من الخدمات التي لا تملك الجمعيات الخيرية أن تقوم بها لطبيعة البيانات وخصوصيتها.

إن النقد الرصين المبني على الحقائق والمعلومات أمر إيجابي مطلوب، وهو يستحق الترحيب والتقدير، حتى إن كان حديثاً عن الأخطاء والسلبيات الموجودة فقط، ذلك أنه أداة مهمة للتطوير والتحسين المستمر والرقي بالعمل الخيري، لكن ذلك مشروط بأن يكون عن علم ودراية وخبرة، أما إذا كان الحديث مبنياً على الظنون والتخرصات والأوهام، ومرتكزاً على قلة الوعي بالشيء الذي يتم انتقاده، فإنه والحالة هذه يكون من إلقاء الكلام على عواهنه، ويكون هدفه التشكيك في جهود الآخرين والتقليل منها.

إن العمل الخيري في المملكة عمل عريق، وعميق، ومتنوع، وله أثر كبير على المجتمع، وجدير بنا الإشادة بكل مبادرة جديدة، والثناء عليها، وهذا لا يقتضي بالضرورة لعن الوضع السابق، أو تناسي المجهودات الأخرى أو تهميشها، كما أن من المهم أن يتم – وبشكل مستمر - توظيف التقنية الحديثة بشكل فعال لخدمة المستفيدين وتحقيق الأثر، والحرص على التنسيق والتكامل بين الجهات المختلفة لتحقيق أعلى مستويات الخدمة وأدقها ( الجهات الحكومية - القطاع الخيري - القطاع الخاص).

ولندرك أن واجبنا - جميعاً - أن نكون مدافعين عن كل عمل خيري مبارك، ومقوّمين لأي اعوجاج نراه بوعي وعلم ويقين، كما أننا يجب أن ندفع عن أعراض الباذلين أموالهم وجهودهم وأوقاتهم في خدمة الناس، وعدم فتح المجال لكل أحد للنيل من الجهات الخيرية أو الحكومية أو غيرها، بدون دليل، ومحاسبة المتجاوزين في ذلك، فالكلمة أمانة يجب رعايتها، والقلم والإعلام أداة للبناء فلا يصلح أن تستخدم للهدم.
دمتم بخير،،،

محمد بن سعد العوشن
إعلامي مهتم بتطوير الذات والعمل الخيري.
@bin_oshan

يونيو 02, 2019

النور يخرج من «غيابة الجب»

 وسط مشاعر الانكسار والإحباط واليأس للفرد، سواء كان ذلك في شأنه الاجتماعي والعائلي، أو كان في شأنه المالي، أو في وضعه الصحي، أو في طموحاته وأحلامه، أو في غير ذلك ، يأتي النور -من الله- ليبدد تلك المشاعر السلبية الموحشة، فيبدّل اليأس أملا، والإحباط تفاؤلاً، والانكسار قياماً ونهوضاً.
يأتي هذا النور هادئاً، ومن غير ميعاد، يأتي للمرء من حيث لم يحتسب، يأتي في أشد لحظات الأسى إرهاقاً، وفي أكثر أوقات الإحباط إيلاماً..، ولا يحتاج ذلك النور حين يأمر الله بمجيئه إلى أحداث كونية كبرى، ولا جهود عظيمة، بل يكون بما لم يتوقعه المرء، ولم يحسب له حساباً، وكما قال الشاعر:
ما مـرّ بي قـلـقٌ إلا و أنـقـذني * ”بـيـتٌ“ يحـوّلُ أحزاني لأفراحِ
سيفتحُ الله باباً كنت تحسبهُ * من شدة اليأس لم يخلق بمفتاحِ



وقد جرت العادة الكونية أن لا يبزغ الفجر إلا بعد أن يكون الليل في أشد حالاته حلكة وسواداً، فيكون النور هنا أجمل ما يكون، ولعلنا نتجول سوياً في سورة يوسف عليه الصلاة والسلام، لنجد النماذج المتتالية التي تؤكد هذا المعنى وتجلّيه، والذي خلاصته أن الفرج يأتي بعد الشدّة، وأن اليسر يأتي بعد العسر، غير أن المرء يستعجل دوماً الفرج قبل أوانه، كما قال الله تعالى ( وكان الإنسان عجولاً)، وكما قال صلى الله عليه وسلم : (ولكنكم قومٌ تَستَعْجِلونَ).

فأين النماذج التي في سورة يوسف؟

إنها كثيرة، وتتابعها عجيب، فقبل أن يصل يوسف لقصر العزيز، فيعيش فيه مكرماً مدللاً؛ كان معرضاً للموت بالقتل، الذي عدل عنه إخوته، وقرروا إلقاءه في غيابة الجب، في ذلك البئر الموحش وحده، دون طعام ولا شراب ولا أنيس رغم أنه كان الفتى الصغير المدلل عند والده.

وقبل أن يعيش يوسف في العزّ والثراء والغنى، ويرى الأموال في ذلك القصر المنيف، كان قد بيع بثمن قليل، بدراهم معدودة من قلّتها وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ.

وقبل أن تعلن براءة يوسف من الاتهامات في شرفه وطهارته وعفته، بتدخل شاهد من أهل امرأة العزيز لصالحه؛ كان يوسف متهماً بإرادة السوء بامرأة العزيز، متوعداً بالسجن والتعذيب جراء تلك التهمة المكذوبة،) قالت مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(.

وقبل أن يكون في ذلك الموضع الذي تحته خزائن الأرض يتصرف فيها كيف يشاء، وقبل أن يتم الاعتراف بفضله وخبراته وقدراته التي تخوله ذلك المنصب الرفيع؛ كان يوسف في غيابة السجن بِضْعَ سِنِينَ، دون تهمة توجب ذلك.

وقبل أن يبصر يعقوب ابنه المفقود يوسف، ويكحلهما برؤيته مع أخيه، ويعود إليه بصره حين ألقي عليه قميص يوسف؛ كانت حاله كما رواها القرآن ( وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ( فكان كفيفاً لا يبصر شيئاً.

وقبل أن يذهب يعقوب عليه السلام وزوجته وأولاده إلى مصر لأجل اللقيا بالأبناء المفقودين ويجمع الله شملهم هناك؛ كان قلبه يتفطر كل يوم على الفقد المتتالي لأحب أولاده إليه “يوسف” ثم “أخيه” وكان مما يزيده ألما أن ذلك الفقد المتعمد كان بسبب مكر بقية الأبناء وكيدهم وتقصيرهم.

وقبل أن يسمع يعقوب من بنيه توبتهم، وإنابتهم، وطلبهم الصفح والمغفرة، واعترافهم بأنهم كانوا خاطئين؛ كانوا يرددون على مسامعه اليأس من عودة يوسف بكرة وعشيا قائلين له، معتبرين توقع عودة يوسف هو بسبب الهرم وكبر السن والرد إلى أرذل العمر.

وقبل أن ينعم الله على أهل مصر بالغيث فيأتيهم، كانوا يعانون من السنوات السبع الشداد العجاف، سنوات القحط والجفاف.

وفي كل هذه المواضع من سورة يوسف وقصته، كان الفرج يأتي بعد اشتداد الكرب، وعظم المصيبة، وهي سنة لله تعالى في عباده منذ بدء الخليقة وحتى يومنا هذا.

وثمة تأمل آخر في هذا المصاعب التي ذكرتها السورة، وهو أن أولئك المبتلين لم يقفوا يوماً عن مساعيهم في رفع البلاء، فهذا يعقوب يوصي بنيه بالبحث عن يوسف المفقود، (يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ).

وهذا يوسف حين ابتلي بعشق امرأة العزيز له، ومراودتها له عن نفسه؛ طفق يهرب من مكان الفتنة، ويحاول السعي بكل جهده للخروج، فَاسْتَبَقَا الْبَابَ، يريد الفرار وتريد الإمساك به.

وحين قرر العزيز سجن يوسف رغم وضوح دلائل براءته، سعى يوسف للخلاص من هذا السجن، فأوصى أحد السجينين اللذين عبّر لهما رؤياهما بمراجعة الملك، وقاله له اذكرني عند ربك، لعله أن يتذكر قضيته، ويفرج عنه بعد هذا المدة الطويلة.

وحين أخرج الملك يوسف من السجن، وقرّبه إليه، بعد تأويله للرؤيا، بادر يوسف بطلب التولية على خَزَائِنِ الْأَرْضِ ليدير العملية الاقتصادية بكل اقتدار.

بقي أن أشير إلى التأمل الأخير مع آيات هذه القصة العظيمة، وهي أن واجب المكروب والمبتلى بالإضافة إلى العمل بكل ما يستطيع، وتوقّع الفرج، أن يلجأ إلى الله تعالى بكليته، يسأله ويتوسل إليه، ويحسن الظن به، كما قال يعقوب بعد فقدانه لأعز أبنائه: (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا) وقال (إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ) وكان يقول لبنيه وهو يوصيهم بالبحث ( وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ).

وحين ابتلي يوسف بامرأة العزيز كان يقول (مَعَاذَ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ۖ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ)؛ إنه الانطراح بين يدي الله، والتوسل إليه، وإعلان أن الحول والطول بيده سبحانه.

إن هذه المعاني العظيمة في “أحسن القصص” جديرة بالتأمل والتفكر والتدبر، لأن الله عز وجل لم يسق لنا هذه القصة باعتبارها حدثا تاريخيا مضى وتصرمت سنواته فانتهى؛ بل باعتبارها مدرسة عظيمة التأثير، ملهمة في المسير، مزيلة للتكدير، مريحة للضمير، معلقة الرجاء والأمل والتفاؤل بالسميع البصير.

خصوصاً حين نعلم أنّ السورة نزلت في فترة شدة وكرب على النبي ﷺ حين حاصرته قريش في الشعب، فكانت هذه القصة بكروبها والفرج فيها بعد الشدة تسلية له ﷺ وإخباراً له بأن من سبقه قد ابتلوا فصبروا فكان الله معهم وأزال عنهم البأس.

فيا أيها المكروب في أي شأن من شؤونك، تذكّر أن بعد الشدة والعسر يسرا، وأن دوام الحال من المحال، وأن الله إذا أراد شيئاً فإنما يقول له “كن” فيكون، وأن كل شيء عليه هيّن سهل يسير، فتوكل عليه، وأحسن الظن به، تلق الخير، وتوفق إليه.
دمتم بكل خير .

محمد بن سعد العوشن
إعلامي مهتم بتطوير الذات والعمل الخيري
@bin_oshan

تم النشر في صحيفة تواصل هــنــا

يونيو 01, 2019

سعود العوشن .. عطاء حتى الوفاة

الحديث عن سيرة الشيخ المفضال، والداعية المبارك سعود بن محمد العوشن حديث ذو شجون، فقد كان -رحمه الله- أنموذجاً مختلفاً عمن عاصرهم، كان أيقونة للجدية والاجتهاد والعمل الدؤوب، والتأثير الكبير، وكان قوي الشخصية، ثابت الجنان، صامداً في وجه رياح التغيير، ملتزماً بمبادئه الشرعية، وأعراف المجتمع الأصيلة، وكان ذا علاقات واسعة، معروفاً على نطاق واسع، ولم يكن – يوماً ما – هامشياً في أي موضع عمل فيه أو أتى إليه، بل كان دوماً من المبرزين ذوي الرأي السديد، والحزم، وكان قدوة في كل فترات حياته رحمه الله.


ولذا فالكتابة عنه يصدق فيها قول القائل :

هو البحر من أي النواحي أتيته * فلُجّته المعروف، والجود ساحله

ولست أدري من أين أبدأ حديثي عنه، فإنك لا تكاد تلتفت إلى جانب من جوانب حياته إلا وجدت كنزاً يستحق الإشادة، في بيته، وفي أسرته، ومع إخوانه، ومع والديه، وفي مسقط رأسه، ومع زملائه، ومع موظفيه، وفي الأعمال التي تقلدها، وفي المشروعات التي أطلقها، وفي المبادرات التي تبناها.. فلا غرو أن كان حديثي عنه مشتتاً، لكنني أردت به أن أشق الطريق، وأبدأ، على أن أقوم بعد ذلك بإعادة مراجعة وتقديم وتأخير، لتكون السيرة حينها أكثر نضجاً وترتيباً وإفادة.

ولعلك أيها القارئ الكريم أن تعذرني، وتعتبر ما تقرأ من سيرة عمي أشبه بحديث شخصي إليك، تتسابق فيه الكلمات والمواقف إلى لساني، فتأتي من غير ترتيب ولا تنسيق ولا تزويق.. فقد كان  -رحمه الله- نسيج وحد، وكان رحيله فاجعة على قلوب كل من يعرفه، كان شعلة عظيمة أراد الله لها أن تنطفئ، بعد أن أشعلت آلاف الشعلات هنا وهناك.

ومن المجالات الرئيسة الواضحة في سيرة العم  -رحمه الله- ما يتعلق بحرصه على العطاء والنمو المعرفي والثقافي، حيث كان من عادته -رحمه الله- أن يزور المكتبات الإسلامية والتسجيلات الإسلامية بشكل منتظم، ويأخذ منها جملة من الإصدارات، ثم يقرأ الكتيبات، ويستمع للأشرطة، حتى إذا أعجبه شيء منها وأخذ بمجامع قلبه، رأيته يعود لتلك المكتبة، فيأخذ منها نسخاً كثيرة من هذا الكتاب أو الشريط، ويبعث بها لكثيرين، ويجعل في مجلس جملة منها، يهديها لزواره، ويسوق لها، ويحثهم على الاستفادة منها، ولهذا فلا تخلو سيارته، ولا مجلسه، ولا مجالس الضيافة الكبير (الذي يقيم فيها المناسبات) من عشرات الكتيبات و الأشرطة والأقراص المدمجة الموضوعة المخصصة للإهداء.

وكان من عادته  -رحمه الله- أنه إذا وجد كتاباً مناسباً للأسرة برمّتها .. وضعه في ظرف، وربما أرفق معه خطاباً، وبعث به إلى كل أبنائه، وبناته المتزوجين، وأبناء وبنات إخوانه، طمعاً في استفادتهم من محتواه.

وكان إذا وجد أسئلة تثير التفكير في أحد هذه الكتب، أو نموذجاً فعالاً للأهداف الشخصية، كان يطبع ذلك النموذج، وتلك الأسئلة على ورق كبير بحجم (A0) ثم يعلّقها في مجلسه، ويجعلها مثاراً للنقاش مع الزوار، ولا يرى حرجاً في تعليقها، فلم يكن يعطي المظاهر أهمية كبرى بقدر ما يعطي المخابر.

وفي مجلسه الذي يستقبل فيه ضيوفه كل يوم قام العم  -رحمه الله- بتعليق خارطة للعالم الإسلامي، ليدفع بنيه وزواره إلى تصورّ حدود انتشار الإسلام، وأين يقع المسلمون، حتى إذا تداولت الأخبار حال بعض بلاد المسلمين، وجدته يشير إلى موضع تلك البلاد، ويطلب من أحد الموجودين لديه أن يبحث عن معلومات إضافية عن تلك البلاد، ويقرأها على الحاضرين.

وفي يوم الجمعة، كان رحمه الله يحرص على انتقاء  الخطيب في يوم الجمعة، فهو يعتبر خطبة الجمعة جرعة أسبوعية مهمة لابد من العناية بها، وقد صلّى زماناً طويلاً عند الشيخ سعد البريك حين كان خطيباً ذائع الصيت، ثم عند الشيخ عبدالله السلمي، ولا يذكر له خطيب متميز في طرحه إلا حرص على الصلاة معه والانتظام لديه مدة غير قليلة، وحين يرجع لبيته بعد الصلاة وفي جلوسه مع ضيوفه مغرب الجمعة، كان موضوع الخطبة وفوائدها هي حديثه، ويجعلها مثار النقاش مع من يجالس، ولم يكن على الإطلاق يبحث عن الجامع القريب أو الجامع الذي يخرج مبكراً.

وكان  -رحمه الله- يقوم بين فترة وأخرى بإعداد كتيبات صغيرة، يكتبها بخطه في بداية الأمر، ثم أصبح يعطيها لمن يعيد كتابتها بالحاسب، ثم يطبع منها نسخاً عديدة، ويوزعها على من تناسبه، فحيناً تكون عن (وصايا للفتيات في الحياة الزوجية) وحيناً عن (التربية)، وكتب عن سير عدد من رجالات و كبار العائلة الذين تخطفهم الموت ولم يعرف عنهم شباب العائلة الكثير.

كما اعتاد  -رحمه الله- على كتابة خطابات متعددة، حين يتأثر بطرح موجّه للشباب مثلاً، فيوجّه رسالته لكل واحد من شباب العائلة يدعوه فيها لحمل هم الأمة، واستشعار دوره في خدمة مجتمعه، وضرورة وجود الأهداف الكبرى في حياته.

وكان يحثّنا ويؤكد علينا بأهمية الاستفادة من اللقاء العائلي في إضافة جوانب معرفية، وعلمية، وتربوية إلى اللقاء، ويتضايق كثيراً حين يكون الوقت كله مخصص للأحاديث الهامشية، ومن عادته – رحمه الله- أن يشيد بكل جهد معرفي يتم، ويفرح به، ويتهلل وجهه لذلك، كما كانت وجهة نظره تتجه نحو أهمية تعليم الصغار الخطابة، وتعويدهم على الإلقاء، لذا سعى لإقامة المسابقات بين أفراد العائلة في ذلك، وأجزل فيها الأعطيات.

ووالله إن المواقف لتنحدر علي انحداراً حين أكتب، لكنني أحبسها بغية الإيجاز وعدم الإملال.. فهي ليست موقفاً فريداً بل هي سلسلة من المواقف التي تنبع من قناعات أصيلة لدى العمّ رحمه الله، فتراه لا يملّ ولا يكلّ من طرحها، مهما وجد من عدم المبالاة أحياناً أو العزوف والمعارضة لها في أحيان أخرى، فهو يترقب ويسبر ويتفرس من بين الجيل من يحمل الراية من بعده، وتؤثر فيه الرسالة، وكان العم رحمه الله تعالى يدرك أن كثرة الطرق تفكّ الحديد، وأن الاستمرارية طريق موثوق نحو تحقيق الهدف.

رحم الله العم سعود رحمة واسعة، وأسكنه الفردوس الأعلى من الجنة، وأصلح له في عقبه، وجمعنا وإياه وكل قارئ في مقعد صدق عند مليك مقتدر، وأعاننا على أن نقتدي بشيء من سيرته العطرة رحمه الله.

وللحديث صلة بإذن الله.

دمتم بخير ،،،

محمد بن سعد العوشن

إعلامي مهتم بتطوير الذات والعمل الخيري

  @bin_oshan


تم النشر في صحيفة تواصل من هــنــا