فبراير 13, 2019

التناغم | لنتفق رغم كل خلافاتنا

ما من شكّ أن ثمة أصدقاء تتوافق معهم في كثير من الجوانب، وثمة أعداء تختلف معهم في الكثير من الجوانب، وهي سنة الله في خلقه، قال تعالى: (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ)، غير أنه من المؤكد أن بإمكاننا العثور على مصلحة مشتركة يمكن العمل عليها مع أولئك “الأعداء”، مع بقاء العداوة الأساسية كما هي، وإذا كان هذا ممكناً مع (الأعداء)، فكيف بالمختلفين عنك (جزئياً) في مسائل (محددة)، والذين لا ينطبق وصف العداوة عليهم؟

ويتوهم البعض أن الاتفاق مع الغير على (خطوات محددة)، أو العمل معهم في (مشروع واحد) يستلزم بالضرورة الاتفاق معهم على (كل شيء)، والقبول بآرائهم كلها، والانسياق وراء توجهاتهم المختلفة جميعاً، ويتوهم كذلك أن وجود الطرفين على طاولة واحدة، وقرارهما بالشراكة في عمل محدد يعني أنهما باتا شيئاً واحداً، ونسخة من بعضهما البعض!

وهذا (وهم كبير) يعوّق ويعطّل الكثير من المشروعات المهمة والأفكار الخلاقة، ويزيد من شقّة الخلاف الموجود أصلاً بين الأطراف المتعددة، ويدفع لمزيد من التباعد في النفوس وفي الأعمال.
فبرغم كل (نقاط الخلاف والاختلاف) الموجودة بين البشر، وتنوعها، واختلاف طبيعتها ومسماها، فإن ثمة (نقاط اتفاق) كثيرة يمكن أن تجمعهم، فما من مختلفين إلا وبينهم من نقاط الاتفاق الكثير، غير أن المشكلة المنتشرة اليوم أن كثيراً من الناس ركنوا إلى (نقاط الخلاف) ولم يبحثوا عن (نقاط الاتفاق)، ويتحدث أهل التنمية البشرية عن سنّة ثابتة فيقولون: “ما تركّز عليه يتعاظم في حياتك ويكثر ويزداد”، فالتركيز السلبي -إن صحت التسمية- الباحث عن نقاط الاختلاف والتباين يساهم بشكل أو بآخر في تفاقم الخلافات، واشتداد العداوات، وتأزم العلاقات.

والحديث عن (العمل المشترك) في الجوانب المتفق عليها، لا يتعارض إطلاقاً مع الاعتراف بالخلاف الموجود في جملة من القضايا الأخرى التي قد تقلّ وقد تكثر، ولا يتعارض العمل المشترك -كذلك- مع المنافحة عما نعتبره حقاً، ولا يتعارض مع الحديث بكل وضوح عن الأخطاء الموجودة لدى الغير، وعرض تجاوزاتهم، ونقدها نقداً بناء، فالعمل سوياً لا يتعارض مع ذلك كله إطلاقاً.

وهذا الحديث كلّه ليس تنظيراً فحسب، وليس من باب مثاليات “المدينة الفاضلة” الأفلاطونية، بل هو حديث عملي قابل للتطبيق على أرض الواقع.

وقد ثبت أَن ّرَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : ” لَقَدْ شَهِدْتُ فِي دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ حِلْفًا مَا أُحِبُّ أَنَّ لِيَ بِهِ حُمْرَ النَّعَمِ ، وَلَوْ أُدْعَى بِهِ فِي الإِسْلامِ لأَجَبْتُ “، وقد كانت قُرَيْشًا تَتَظَالَمُ بِالْحَرَمِ ، فَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جُدْعَانَ ، وَالزُّبَيْرُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَدَعَواهُمْ إِلَى التَّحَالُفِ عَلَى التَّنَاصُرِ ، وَالأَخْذِ لِلْمَظْلُومِ مِنَ الظَّالِمِ، فَأَجَابَهُمَا بَنُو هَاشِمٍ وَبَعْضُ الْقَبَائِلِ مِنْ قُرَيْشٍ ، فَتَحَالَفُوا  وَسَمَّوه (حِلْفَ الْفُضُولِ).

كما تضمن صلح الرسول صلى الله عليه وسلم مع يهود المدينة ما يلي: ( وإنَّ على اليهود نفقتهم، و على المسلمين نفقتهم، وإنَّ بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وإن النصر للمظلوم وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين)، ويمكنك أن تلاحظ -في هذا السياق- أنه رغم الاختلاف الكبير بين المصطفى صلى الله عليه وسلم، واليهود؛ إلا أن كونهم في مدينة واحدة، ولهم فيها مصالح مشتركة، وثمة عدو محدد يفكّر في استهداف المدينة بمن فيها؛ فقد تم التوصل إلى العمل على النقاط التي يتفق عليها الطرفان، وهي (حماية المدينة)، و(المشاركة في الدفاع عنها)، و(مناصرة المظلوم)، مع بقاء العداوة قائمة، وموقف المسلمين من اليهود كما هو.

ويروى عن يونس الصفدي قوله: «ما رأيت أعقل من الشافعي ، فلقد ناظرني يوما في مسألة ثم افترقنا ولقيني فأخذ بيدي ثم قال : يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكون إخوانا وإن لم نتفق في مسألة »

و هذا “التناغم” من حيث الأصل أمر يقضي به العقل السليم، والتفكير السوي، كما أنه معمول به في الكثير من المجتمعات الناضجة اليوم، حيث يعمل المختلفون سوياً، فيحققون نجاحات كبرى على أرض الواقع، لم تكن لتتحقق لولا العمل وفقاً لـ(نقاط الاتفاق).

واستكمالاً لهذا الحديث المهم، فإنني أعد  في المقال التالي -بإذن الله – أن أعرض لجملة من النماذج الواقعية التي نراها كل يوم لـ “التناغم”، لعلها أن تلهمنا التفكير في الأمر، وتوقظ لدينا هذا الحسّ في مجتمعنا، فنطور من أدوات تعاملنا، ونحسّن من أساليب التنسيق فيما بيننا، بما يحقق المصلحة العامة، ويقرّبنا إلى أهدافنا المشتركة، ويخدم ديننا ومجتمعنا.

دمتم بخير ،،،

محمد بن سعد العوشن

نشر في صحيفة تواصل هــنــــا

فبراير 03, 2019

مزيج التميّـــز

الحصول على التميز، والاتصاف به، أمر يطلبه الجميع، والنفس بطبيعتها ميالة لأن تتميز عن الآخرين بما يستوجب المديح والثناء.
ومن ضمن الجوانب التي يطمح المرء للتميز فيها " عمله الوظيفي"، باعتباره موضعاً لقضاء ثلث يومه فيه، لخمسة أو ستة أيام في الأسبوع، ولأن ذلك العمل هو مصدر الدخل المادي الذي به يستكمل المرء تلبية احتياجاته وتحقيق ذاته.

ولكي تحقق نجاحاً في عملك الوظيفي، وتكون ضمن القلة المميزين في مجالك، وتكسب الكثير من المال من جراء ذلك، فإنك تحتاج - كما يقول تيم فريس- إلى أن تكون أحد أفضل المتخصصين في مجالك على مستوى العالم، أو على مستوى بلادك أو مدينتك، فذلك يكفل أن تكون أحد الذين يشار إليهم بالبنان، وتنشد الجهات استقطابك للانضمام إلى فريق العمل لديها.
ولأن الوصول إلى مرحلة "الندرة" والتميز المنفرد بهذه الصورة أمر عسير على الكثيرين، ويتطلب مزايا استثنائية لا يمكن مطالبة الناس بالحصول عليها أو الوصول عليها، فإن "تيم" يقترح سبيلاً آخر لتحقيق التميز، ألا وهو أن يكون لدى المرء تميز "نسبي" وليس "مطلقاً " في مجالين أو ثلاثة معاً، ذلك أن وجود هذه المساندة بين جوانب التميز المتعددة -ولو قلّت-، من شأنها أن توجد مزيجاً فريداً يحقق للمرء جاذبية خاصة تجعله مطلوباً للعمل في العديد من الجهات، غيرغارق في التخصص الدقيق الواحد.
ومن أجل تجلية فكرة "مزيج التميز" بشكل أكبر، يمكن الإشارة إلى هذا المثال:
لو أن موظفاً متخصصاً في الموارد البشرية، ولديه "شيء" من التميز النسبي في ذلك، وجمع مع هذه المزية النسبية ميزة إتقان استخدام الحاسب الآلي بكفاءة، كما كانت لديه قدرة جيدة في الصياغة الأسلوبية كذلك؛  فإن هذا المزيج المتنوع من شأنه أن يجعل عمله في الموارد البشرية في منظمته عملاً متميزاً يفوق به الكثير من أقرانه الذي لديهم "تميز كبير" في مجال الموارد البشرية فحسب، حتى ولو كانوا يفوقونه فيها بمراحل، ذلك أن بإمكانه توظيف معرفته الوثيقة بالحاسب الآلي في جلب الكثير من النماذج الإلكترونية وتصميمها، وتخصيصها من أجل تيسير إجراءات الموارد البشرية، كما أن أسلوبه الجميل في الصياغة يمكّنه من إعداد الكثير من الرسائل التحفيزية للموظفين، وإعداد الخطابات المتنوعة، والتأكد من صياغة الرسائل الموجهة من المنظمة وإليها، وإعداد مادة التقرير الدوري أو السنوي لقسم الموارد البشرية، وهو ما يجعله "عملة نادرة" في منظمته.
وهذا مجرد مثال على دور "المزيج" في تحقيق "التميز"، ووفقاً لهذا المثال يمكنك التفكير ملياً في وضعك وتخصصك الحالي، والتساؤل عن المزيج الذي يتناسب معك، ومع ميولك، ومع منظمتك، ثم العمل الجاد لتحقيق هذا المزيج المنشود، من خلال قرار تتخذه بصنع ذلك "المزيج".
وسوف تحمد العاقبة حين تفعل ذلك، وتجد أنه في الكثير من الأحيان، لا يوجد لدى المنظمة الكثير من الخيارات لاستبدالك، إذ أنه في الوقت الذي قد يجدون من هو متميز في ذات تخصصك، لكنهم في الكثير من الأحيان لن يجدوا من يحقق مع التخصص هذا الخليط الرائع الذي ينتج أمراً مختلفاً.
دمتم بخير

محمد بن سعد العوشن
إعلامي مهتم بتطوير الذات والعمل الخيري

فبراير 03, 2019

خارج صناديق الاعتياد

الإنسان بوضعه الاعتيادي يجب المألوفات لديه، ويعتاد عليها، ويصعب عليه مفارقتها، لذا ترى كثيرين يأكلون ذات الطعام ويشربون ذات الأشربة التي اعتادوا عليها منذ سنين طويلة، ويحجم الواحد منهم عن تجربة الجديد، ويعرض عنها صفحًا لأنها تخرجه من دائرة الاعتياد، وتجعله في دائرة التجريب والاختبار بكل احتمالاتها.
وهذا الصندوق يسير شأنه، إذ أننا نمكث في (صندوق العلاقات المعتادة)، وربما افتخر المرء بأن كل علاقاته الحالية قديمة، تعود للمرحلة الثانوية أو الجامعية أو سواهما!

إن وجود العلاقات الوثيقة، طويلة الأمد أمر مطلوب لكن المرء محتاج لكي ينضج ويتعلم ويتوسع إدراكه ويحيط علمًا بجوانب ليس يعرفها، بحاجة إلى الخروج من صندوق العلاقات المعتادة لتجربة صداقات وعلاقات مختلفة كليًا، مختلفة اجتماعيًا، وجغرافيًا، وفكريًا، وطباعًا..

ومع كل تجربة جديدة يدرك المرء كم فرّط في ذلك الأمر سنينًا، وأغلق أمام نفسه أبواب المعرفة الكثيرة تحت أسر العادة، ويمكن أن يقال ذلك عن الكتب المعتادة، والمشايخ المعتاد على السماع لهم، والقراء، والشعراء، والمنشدين، والبلدان، والألبسة، والمراكب، والمساكن، في قائمة لا تنتهي من الصناديق التي بتنا أسرى لها لا نجاوزها، فإذا ما تجاوزناها وارتفع وعينا أدركنا أنه كان من الأولى بنا أن نفعل ذلك منذ زمن طويل.

وحتى لا يفهم حديثي على غير ما أريد به، فإن ذلك كله يجب أن يكون وفق المباح والجائز شرعًا، فلا يجرّب المرء الخمرة للخروج من صندوق الأشربة المعتاد، ولا يصاحب أهل الضلال ويسايرهم بهدف الخروج من الاعتياد وتجربة التغيير..
ولنتذكر دوماً الدافع من هذا الخروج عن صندوق الاعتياد .. وهو توسيع دائرة المعرفة والإدراك ورفع الوعي، وإطلاق الفكر لمزيد من التأمل والتفكر.