فبراير 18, 2018

لا تسعّر طعامك!


يكون المرء منطقيًا أحيانًا في موضع ليس للمنطق فيه موضع!
ويحرم نفسه من أمور وأشياء تحت ذريعة (هذا تلاعب في الأسعار ومخادعة لا يمكن قبولها).
ولربما سكن المرء أحيانًا في فندق ذو خمس نجوم، أو في فندق بمنطقة بعيدة عن المدينة، يندر الوصول إليه، أو يكون في المطار، أو في قرية تقل فيها الخدمات من هذا النوع، ويكون في حاجة لهذه الخدمة المقدّمة أو تلك ويمنعه من الاستفادة منها أو شراؤها أو اقتناؤها.. أن (سعرها مبالغ فيه)، وربما كان أضعاف السعر الأصلي لها!


لذا يرى أن كرامته، وعزّته، وقوّته تكمن في الامتناع عن الاقتناء وحرمان نفسه من ذلك لأجل تأديب هؤلاء الذين يستغلون المواقع بكل جشع، ولا يخشون من رقيب أو حسيب.
إنني أدرك أن ثمّة استغلالاً وخداعاً – إن صح أنه خداع فعلاً – يوجد أحياناً.

وإنني أعترف -و لأول مرّة – أنني كنت من هؤلاء الذين يرون أن الشراء في هذه الحالة – حتى لوكنت بحاجة للطعام أو السلعة – يعتبر قبولاً بالإذلال والخداع من هذا التاجر الطمّاع، وأن الامتناع عن الشراء لتأديبه هو أكثر إبهاجاً لنفسي، وتحقيقاً للرضى الداخلي (المزعوم)، لقد كنت – في الحقيقة – أخدع نفسي!!

كنت – وإلى وقت قريب – إذا دخلت مطعمًا أو مقهى لأجلس فيه وأتناول شيئًا من أطعمته أو أشربته، فيكون أول ما ألقى عليه نظري (قائمة الأسعار) وأجعلها أحيانًا أحد المقاييس لاختيار الطعام، مع الاهتمام طبعاً بالنوع والطعم والشهرة.

وربما دخلت المطار مرّة فلم أشرب شيئًا مع رغبتي في ذلك، مع مكثي ساعة أو ساعتين، لأن الأسعار غير عادلة! وأقول لنفسي: لا يكافئ هؤلاء الطمّاعون بالشراء منهم.

لكنني اليوم أزعم أنني تغيّرت! وأرجوا أن تتأملوا الأمر فربّما تغيرتم، أو أنكم من المتعافين أصلاً، وذلك أنني بدأت أتفهم أموراً في هذا السياق ..

أولاً: ارتفاع السعر له مسبباته غالبًا فطبيعة المكان، وأسعار الإيجار فيه، وصعوبة الوصول، ونوعية وحجم المكان والأثاث وعدد فريق العمل ونوع الفريق، وكل التفاصيل ذات الصلة مؤثرة جدًا في موضوع السعر فضلاً عن حجم المبيعات، ونقل البضائع، والمنافسة للحصول على هذا الموقع.

قد لا يكون الارتفاع بهذا القدر مبررًا كلّه، لكن المقارنة بالسوق ليست عادلة كذلك، فمن يستأجر محله بخمسين ألفًا سنويًا لا يقارن بمن يستأجره بخمسين ألفًا شهريًا.

ولو تأملت فيما تدفع قيمته أحيانًا لوجدت أنك تدفع قيمة المكان، قيمة الإطلالة، قيمة السمعة والمكانة، قيمة الوجاهة والمظهر، قيمة الجلسة والاجتماع المميز.

وأنت في كثير من الأحيان لا تطلب (الخدمة) ثم تذهب، بل تجلس طويلاً وتأخذ حيزًا، مما يعني أنك في الواقع استأجرت مكانًا للجلوس وحرمت المطعم أو المقهى من زبائن آخرين.

كما أن مبلغ التوفير – لو لم تشتر من هؤلاء – ليس كثيرًا في نهاية الأمر فقد يكون عشرات الريالات في غالب الأحايين، وهو مبلغ أقل من أن تكدر صفوك أو تؤجل متعتك أو تحرم نفسك لأجله، مع أنك ربما أنفقت أضعاف هذا المبلغ دومًا في غير وجهه.

ففي المطار، وفي السفر تدفع ألوف الريالات، ثم تماكس في عشرات الريالات التي تكمل المتعة!

وأوصيك هنا بأن تترك عنك دعوى التأديب المزعومة، فهم أولاً – أعني التجار – لم يعلموا بك، ولم يشعروا بوجودك، أو انصرافك، ولا تهمهم انطباعاتك الخاصة، ثم إن طوابير المشترين والمستفيدين أكبر من أن تجعلهم حريصين على سماع وجهة نظرك، أنت في الحقيقة إنما تحرم نفسك مما تحتاجه، وأخص بالذكر الحالات التي تكون زيارتك لهذا الموضع أو ذاك قليلة أو نادرة، وليست سلوكاً يومياً تصنعه بحيث يجدي فيه البحث عن البدائل.

لهذا، خذ نصيحتي التي عملت بها حديثاً فوجدت ارتياحاً نفسياً كبيراً : إذا ذهبت لمطعم مميز، أو لمطار، أو في منتجع سياحي، أو على شاطئ جميل، وأردت طعاماً فوجدته، فلا تسعّر طعامك حين تشتهيه، ولا مشروبك حين تكون مريداً له، ولا تتوقف عن شراء سلعة أو خدمة تحتاجها الآن لأنها في مكان أو وقت آخر ستكون بمبلغ أقل.

وقتك أهم، ومتعتك الآنية أهم، واستفادتك من المرافق المتاحة، والخيارات الموجودة أولى من التقتير على نفسك لأجل مبلغ يسير، و(نفسك) تستحق منك إكراماً وتقديراً واهتماماً، فلا تبخل عليها.

دمت موفقاً

محمد بن سعد العوشن

إعلامي مهتم بالعمل الخيري

فبراير 18, 2018

رجاء .. لا تصوّر حياتك!

حيثما حللت، وأينما جلست، وجدت الناس يمسكون بجوالاتهم الخاصة، يصورون!
 يصورون كل شيء، ويقوم الفئام منهم بتصوير المشهد ذاته، فسفرة الطعام التي يتم وضعها في المنزل أو المطعم يقوم أكثر أفراد العائلة بالتقاط صورها في جوالاتهم أو في حساباتهم في شبكات التواصل، ويرون منظرًا طبيعيًا، فيفعلون الشيء ذاته، ويصورون أنفسهم في السيارة والطائرة وفي الوليمة، ويصورون المعالم، والحدائق، والزهور، والسماء، والقهوة، والتمر، والشاي، والفطائر، والصحون المملؤة والفارغة، ويصورون فرادى وجماعات.

وتكاد تجزم بأن مجموع ما تصوره العائلة الواحدة من الصور في سنة واحدة يجاوز عشرين ألف صورة!
بغض النظر عن هذا الرقم وضخامته، غير أن من المؤكد أننا نصور بشكل مهول ومبالغ فيه ومن غير حاجة إطلاقًا.

وثمّة أسئلة مهمة قد تدفعنا للتوقف عن 80% من الصور التي نقوم بالتقاطها. وهي: (لماذا نصور؟ ولمن نصوّر؟ ومتى سنعود لهذه الصور؟، وكيف سنؤرشفها؟).

أرأيت حين نصوّر (الورود والأزهار) في الشارع أو الحديقة أو المكتب، فإن الصور التي تلتقطها – غالباً - تكون غير احترافية، فإننا لن نصل لمستوى مئات الآلاف من الصور الاحترافية المتاحة اليوم على شبكة الإنترنت لكل أنواع الزهور وألوانها وعددها وطريقة ترتيبها. إذا فنحن نصوّر المشاهد الطبيعية مع أن ثمة صوراً كثيرة جداً هي أفضل من صورنا.

ثم لمن نصورها؟ 
ما الذي تجنيه العائلة أو الفرد من إرسال صورة الموادي، أو النهر أو الجبل إلى أقاربهم وزملائهم هل يريد إثبات أنه مصور محترف! أم يريد أن يقول أننا ذهبنا إلى هذا المكان الجميل دونكم أو ماذا؟
ثم إنّ هذه الصور يتم حفظها آلياً ويكون اسم الصور أرقاماً وتواريخاً وليست أسماء واضحة، وتجد أن هاتفك المحمول بات مملوءاً بالصور والمقاطع الكثيرة، فتقوم بعد مدة بحذف جملة كبيرة منها،  أو نقلها لحاسوبك أو حسابك السحابي، وتستمر عملية النقل هذه مرة بعد أخرى، وربما أصبح لديك عشرات  النسخ المكررة والاحتياطية من الصورة الكئيبة ذاتها.

إنني أشعر بأننا قد أصبنا بـ (إدمان التوثيق) دون داع، وصار هوس التصوير مما عمّت به البلوى.
إنني أتفهم أن يكون لبعض الصور الاجتماعية أهمية نسبية، وتبرير منطقي، لكونها صوراً خاصة غير متاحة على الشبكة، ولأنها تروي مرحلة عمرية محددة، تتغير بعدها الملامح، ويكبر الصغير، ويموت البعض، مما يجعل الاحتفاظ بها مبرراً، شريطة عدم التكرار المزعج للصورة ذاتها، فلا داعي لعشرات المصورين ولا لعشرات الصور للمشهد الواحد فتكفي صورة واحدة يتم التأكد من وضوحها فقط، ولا تحتاج في الرحلة ذاتها إلى سلسلة من الصور (صورتنا في المكان أو صورة المكان الذي كنّا فيه...) فالأماكن لها صور كثيرة في محركات البحث، فالعبرة بصورتكم في المكان، والتي تكفي فيها واحدة أو اثنتان.

وقد يستثنى من ذلك الصور التي يتم إرسالها لباقي أفراد العائلة الذين لم يشاركوا في المناسبة أو الرحلة بغية تطمينهم على مسيرة العائلة ومستجداتها وإشراكهم في الرحلة حين حبسهم العذر، لكنها تبقى صورًا مؤقتة قد لا يناسب الاحتفاظ بها جميعًا.

إننا نفوّت على أنفسنا فرص الاستمتاع بالأشياء كماهي، وننشغل بإظهار الاستمتاع بها من خلال الصور التي نرسلها هنا وهناك وننشرها في السناب والواتساب والانستغرام! وربما تحقق للبعيد من الاستمتاع مالم يتحقق للمشارك الفعلي، لأنه كان خارج المشهد في الواقع منشغلاً بإعدادات التصوير وزوايا الالتقاط، ونشر الصور للآخرين.

وقد رأيت ذات مرة مشهداً لأحد الرياضات، حيث كان كل الواقفين على المسار للفرجة يحملون في أيديهم جوالاتهم أو كاميراتهم الرقمية لتوثيق الحدث، بينما كانت تلك العجوز الطاعنة في السنّ تنظر للمشاركين في هذه الرياضة بكل استمتاع، دون أن تشغل يديها أو عينيها بشيء سوى الفرجة.

تفكّر ملياً في مسيرتك مع التصوير، وتساءل بجدّ، ما مصير تلك الصور؟

دمتم بخير