أغسطس 29, 2017

ارفعوا رؤوسكم عالية أيها المعلّمون

لا يمكن لأي من أَفْرَاد المجتمع صغر أو كبر، اغتنى أو افتقر، في أَي موضع وظيفي يعمل، وفي أَي منطقة أو مدينة أو محافظة يسكن، مَدَنِيّاً كان أو عَسْكَرِيّاً، في القطاع العام أو الخاص أو الخيري..
لا يمكن لأحد منهم أن ينكر فضل المعلم، الذي نقله – بِفَضْل الله – من الجهل إلى العلم، وفتح له مغاليق الكتابة والقراءة والحفظ،
وعلى يديه تحول من غرّ جاهل ضعيف، إلى متعلم أو عالم، متحدث، يقرأ العلوم المختلفة، ويتقن مهارات الحياة المتنوعة، ويخدم المجتمع...
نعم، كان المعلم ومَا زَالَ، هو “الذي يَحْتَاج إليه كل الناس”، خلافاً لغيره من أهل الوظائف والمهن التي قد تحتاج إليها يَوْمَاً وقد لا تحتاج إليها، وإن احتجت لها فإن ذلك يكون في فترات محدودة، وليس طوال اثْنَيْ عشر عَامَاً متواصلة على أقل تقدير.

فطبيب العيون مثلاً، قد يعيش المرء خمسين عَامَاً دون أن يراجعه، والمهندس، قد تعيش عمرك كله دون أن تحتاج إليه، والشُرْطِيّ، قد تبلغ عشرين عَامَاً وأنت لم تتعامل معه، وقد تزيد، وهي وظائف شريفة ومُهِمَّة ومؤثرة جِدّاً، لكن حديثي هو عن مدى احتياجك المباشر لها، أما المعلم فهيهات، ما منّا إلا وقد مرّ عليه، وجلس بين يديه، وتلقى منه المعارف والعلوم على اختلافها سنين عَدَدَاً.

وليس هناك من ترمي إليه بفلذة كبدك ساعات طوالاً من يومه، وتتركه وأنت مطمئن عليه، إلا في المدرسة، حيث المعلم هو سيد الموقف، والبطل المتفرّد.

ويبذل “المعلم” وقته، وشبابه، ونشاطه، واهتمامه لكي يرعى هذا الطفل الصغير، يصبر على إزعاجه، ويتحمل بكل هدوء بطء تعلمه، ويسير معه خطوة إثر خطوة، مشجعاً ومحفزاً له؛ مِمَّا يعجز عنه أهله.

تراه يتعامل معه كالأب الرؤوف، والأم الحنون، يفرح بنجاحه، ويسعد بتقدمه، ويقلق لغيابه أو ضعفه أو فشله.

ذلك شيء يسير من الأدوار المُهِمَّة والخطيرة التي يقوم بها المعلم في المجتمع؛ وَلِذَا فإن الاهتمام بالمعلم، وتقديره، واحترامه، والرفع من شأنه، وإعطاءه حقوقه، وإكرامه، كل ذلك واجب شرعي ووطني لا يجوز لأحد أن يتخلى عنه، ولا يحق لكائن من كان أن يقلل من قدر المعلمين، أو يهوّن من شأنهم مهما كانت المبررات والمعاذير.

وكل قرار أو حديث أو مقال أو رسم كرتوني أو مشهد تلفزيوني يصبّ في التهوين من شأن المعلم، أو السخرية منه هو “جريمة” تستحق التشنيع، فالمعلم والتعليم ليسا جداراً قصيراً يتجرأ عليه الجهلة.

والمعلمون في المجتمع مثل الملح في الطعام، لا يطيب الطعام بدونه، كما يقول الشاعر:

يا معشر القراء يا ملح البلد * من يصلح الزاد إذا الملح فسـد

وما أصدق أمير الشعراء أحمد شوقي حين كتب أبياته ذائعة الصيت عن المعلم، فقال:

قُـمْ للمعلّمِ وَفِّـهِ التبجيـلا * كـادَ المعلّمُ أن يكونَ رسولا

أعلمتَ أشرفَ أو أجلَّ من الذي * يبني وينشئُ أنفـساً وعقولا

سـبحانكَ اللهمَّ خـيرَ معـلّمٍ * علَّمتَ بالقلمِ القـرونَ الأولى

أخرجـتَ هذا العقلَ من ظلماته * ِوهديتَهُ النـورَ المبينَ سـبيلا

وطبعتَـهُ بِيَدِ المعلّـمِ، تـارةً * صديء الحديدِ، وتارةً مصقولا

إننا أحوج ما نكون لـحملة وطنية شاملة، تعيد للمعلم هيبته، وصلاحياته، وتكفّ ألسنة المتطاولين على المعلم، وتعطيه من المزايا والخصائص ما يجعله يفتخر بوظيفته، ويحرص على أن يكون ممتثلاً لرسالته، وتجعله في عيون الجيل من العظماء.

حملة تتكاتف فيها الأيدي، وتتَضَافر الجهود ليصبح “التعليم” أشرف المهن، ويغدو المعلم “الأكثر تَقْدِيرَاً في المجتمع”، ويتمنى كل فرد من جيلنا الصاعد أن يصبح معلم الغد المشرق.

فمن يعلّق الجرس؟

دمتم بخير ،،

محمد بن سعد العوشن
@binoshan

أغسطس 22, 2017

مزلق التغيير السريع!

ها أنت قد باشرت مهمتك الجديدة، وبت فعلاً "مديراً" يستمع موظفوك لتوجيهاتك، ويلجأون إليك ليسمعوا منك رأيك ومقترحاتك وحلولك، ويشتكون لك المشكلات التي وتواجههم.
قد يبدو لك حين تباشر العمل وتسمع ذلك وترى العمل الذي كلفت بإدارته بشكل مبدئي .. قد تقرر القيام بإجراء تغييرات جوهرية على هيكلية العمل، وأسلوب التنفيذ، وكيفية توزيع المهام، ونحوها.
والأصل أن عملية التغيير في العرف الإداري مشروعة وضرورية في بعض الأحايين، وبخاصة إذا كان لدى المدير "الجديد" الخبرة الكافية، والقدرة على تقييم العمل الجديد بصورة متوازنة.
لهذا فإن من أولويات المدير الجديد أن يجتمع بموظفي المنظمة، ويعرّفهم بنفسه، بشكل هادئ وحكيم وودود، و يجتمع مع ”الإدارة العليا” لمعرفة المهام بشكل أكثر دقة، وأولويات العمل التي يرونها، والمشاكل الأولى بالحلّ، وأن يجتمع بالشركاء والنظراء لمعرفة مرئياتهم عن المؤسسة، والمزايا التي يرون أهمية المحافظة عليها، وجوانب التقصير التي يرونها، بالإضافة إلى الاجتماع مع الجهات ذات العلاقة، كمدير البنك الذي تتعامل معه المنظمة، والجهات الحكومية والخاصة ذات الصلة.
إن هذه الاجتماعات الجماعية والفردية من شأنها أن تجعلك أكثر إحاطة بالصورة العامة للمنظمة ونقاط قوتها ونقاط ضعفها، ومتطلبات أصحاب المصلحة الداخليين والخارجين،  وحيث تنتهي من تلك الجولة المارثونية، يتبقى الجلسة مع ذاتك، والتي تحكّم فيها ماوصلك من معلومات، وتحللها، وتخرج من ذلك كله بخطّة عمل لما يفترض بك أن تعالجه، وما يفترض أن تتم المحافظة عليه، وما ينبغي إزالته، مع ترتيبها وفقاً للأولويات، وتوقيتها زمنياً .

وحين تكون الصورة أكثر وضوحاً يمكن الإقدام على التغيير، إذ أن التغيير يواجه – دوماً – بالتخوف والتشكك من قبل فرق العمل الموجودة، وينتج عنه شيء من المقاومة الداخلية الخفية أوالمعلنة، كما يجد المدير محاولات مستميتة لإبقاء الأوضاع كما هي، حفاظاً على المكتسبات السابقة وطلباً للراحة، وخوفاً من حصول الضرر نتيجة هذا التغيير المرتقب.
وهذا الاختلاف بين رغبة المدير الجامحة في التغيير، ورغبة الفريق في الثبات على ماسبق، تتسبب في نشوب بعض النزاعات وإيجاد النفرة لدى العاملين في المنظمة، وقد يجد المدير نفسه إذ ذاك وحيداً، وربما أصيب بالإحباط، ورأى أن المفاهيم الإدارية التي قرأها واستوعبها ليست واقعية ولا يمكن تطبيقها.

لذا فوصيتي لك أيها المدير الجديد 
أن تتوقف ملياً  وتتأمل قبل إجراء التغييرات الكبرى في المنظمة، كي لا تضطر إلى اتخاذ القرارات المتعجلة، ثم التراجع عنها تحت وطأة الضغوط أو بسبب الحصول على معلومات إضافية لم تكن حاضرة لديك حينها، فتصبح بعد ذلك في موقف ضعيف، تهتز له مكانتك، وتضعف فيه الثقة بقراراتك.
كما أن التغيير المتعجل الذي يتم اتخاذه قبل اتضاح الرؤى، وحصول التلاحم مع فرق العمل يتسبب في عدم القبول الشخصي للمدير، مما يفقد العاملين روح التفاني وحب العمل، الأمر الذي يؤدي إلى ضعف المخرجات وقلة الإنتاج، برغم ما قد يبدو من الالتزام الظاهري بأوقات العمل والأنظمة الجديدة التي تم إقرارها.

لذا كانت خير وصية لك 
أن تقوم بإحداث التغيير بشكل تدريجي مدروس، مع الحرص على كسب قلوب العاملين معك وتقوية صلتك بهم، وتعزيز ثقتهم بأنفسهم، ومحاولة الاستصلاح قبل إجراء التغيير، والالتزام بالاستشارة، وأخذ الرأي، وإشعار الجميع بالمسئولية المشتركة؛ فإذا تبين لك – بعد ذلك - ضرورة إجراء التغيير، وحتميته، فإنك تستعين بالله وتتخذ قرارك وتجري التغييرات المطلوبة، وقد أعددت للأمر عدّته، وأدركت الخيارات التي أمامك، ومضيت في خطّ لا تراجع عنه.

ولعلك أيها المدير تتذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إنَّ فيك خصلتين يحبُّهما الله: الحِلْم، والأناة)، فما أتحدث عنه هنا هو "الأناة" ذاتها.

(الأعمال ينبغي أن تكون بعد التَّبصرة والمعرفة، والتَّبصرة تحتاج إلى تأمُّل وتمهُّل، والعَجَلَة تمنع مِن ذلك، وعند الاستعجال يروِّج الشَّيطان شرَّه على الإنسان مِن حيث لا يدري) محمد الغزالي.

( الذي يريد تغيير كل شيء أو لا شيء.. لن يفعل شيئاً ) نانسي أستور.

دمتم بخير ،،

محمد بن سعد العوشن
@binoshan

أغسطس 19, 2017

حين يرحل الروّاد .. ينفطر الفؤاد

مائة وخمسة أعوام مضت على ميلاد الشيخ المحسن الباذل / محمد بن إبراهيم السبيعي رحمه الله، والذي وافاه الأجل، وأدركته المنية يوم أمسٍ الجمعة السادس والعشرين من شهر ذي القعدة لعام ألف وأربعمائة وثمانية وثلاثون للهجرة بمدينة الرياض، حيث صلي عليه في جامع الملك خالد،
وتقدّم سماحة مفتي عام المملكة الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ جموع المصلين عليه، و ووري الثرى في مقبرة الدرعية.
وضجّت وسائل التواصل الاجتماعي يوم أمس بالدعوات للشيخ بالمغفرة والرضوان، مشيدين بأفعاله العظيمة، وبصماته الواضحة، وتأثيره الفاعل على القطاعين الخاص والخيري، ولا عجب فقد كان الشيخ -رحمه الله- شعلة مضيئة في تاريخ هذه البلاد المباركة...
ولقد عملت مع الشيخ سنيناً، فكنت أراه في يقيم لصلاة الظهر كل يوم، فيُعطى لاقط الصوت للإقامة، فإذا فرغ منها نادى بصوته مخاطباً الموظفين في مكاتبهم، أن هلمّوا للصلاة، ولا تنشغلوا بالأعمال، وأن المهام يمكن تأجيلها، خلافاً للصلاة.

وكان حين يفرغ من صلاته، فيأتيه بعض الزوار أو العاملين في شركته أو مؤسسته الخيرية، للسلام عليه، يبادر بسؤالهم : من الأخ؟ فإذا عرّف الضيف بنفسه شكره، ودعا له، وقال له "ونعم" ثم سأله عن أهله وذويه.

ومع أن الشيخ – رحمه الله - كان قد بلغ من العمر مائة عام آنذاك، فقد كنت أراه يكتب بيده أوراقاً وخطابات، ويوقع خطابات أخرى، كما كتبت له خطاباً موجهاً لخادم الحرمين الملك سلمان -وكان حينها أميراً لمنطقة الرياض- ليهديه نسخة من تقرير الإنجاز للمؤسسة الخيرية، فذيّل الخطاب بخطه كاتباً (خادمكم ومحبكم : محمد بن إبراهيم السبيعي).

وكان الشيخ معروفاً بتميّز علاقته مع ولاة الأمر، حيث كان يتواصل معهم، و يدعو لهم، وله علاقات وزيارات متبادلة مع ملوك المملكة العربية السعودية، بدءًا من الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود – رحمه الله – ومرورًا بأبنائه : الملك سعود، والملك فيصل، والملك خالد، والملك فهد، والملك عبدالله، رحمهم الله، وانتهاء بخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز حفظه الله.

كما تميّز الشيخ رحمه الله بعلاقاته الوثيقة مع العلماء وطلبة العلم، فكان يعرف لهم قدرهم، ويرجع إليهم في الكثير من المسائل التي تعرض له، ويفرح ويتهلل وجهه بلقياهم، وكان ذا علاقة وثيقة بالشيخ الإمام عبدالعزيز بن باز رحمهما الله جميعاً.

و قد عمل الشيخ محمد - رحمه الله – في أعمال كثيرة شاقة ومرهقة من أجل البحث عن لقمة العيش، واضطر للسفر والترحال لمكة المكرمة لطلب الرزق، وكان حينها شاباً في مقتبل عمره، فعمل بائعاً، وطباخاً و دلالاً يبيع السجاد، وعمل في مهن أخرى ذات صلة بالبناء، كما تعلّم الخياطة لكنه عجز عن شراء ماكينة الخياطة لارتفاع سعرها وعدم تواجد هذا المبلغ لديه.

وقدّ مرّت على الشيخ أوقات عانى فيها معاناة كبيرة من الفقر، يذكرها في أحاديثه، ثم يلهج بالحمد والشكر والامتنان لله عز وجل.

ولأن الشيخ رحمه الله قد جرّب أشد حالات الفقر والعوز واليتم، مذ كان عمره إحدى عشرة سنة؛ فقد أصبح - حين أغناه الله - قريباً من الفقراء، محسناً إليهم، سادّا لاحتياجاتهم، وكان ذا نظرة تنموية متقدمة فيما يتعلق بالفقير، حيث كان يردد دوماً حين يسمع عن مبادرات الخير الموجهة للفقراء : (علموا الفقير كيف يصطاد السمك بدلاً من أن تعطوه سمكة ليأكلها) وكان له رحمه الله قدم سابقة في فعل الخير، والإحسان إلى الخلق، فكان ينفق الأموال على أبواب الخير المتنوعة سنين طويلة، وفي عام 1423 هـ قرر الشيخ محمد وأخوه عبدالله فتح مؤسسة خيرية مانحة تحمل اسميهما، فكان إطلاق (مؤسسة محمد وعبدالله إبراهيم السبيعي الخيرية)، والتي فتحاها في مدينة الرياض، واختارا الدكتور عادل السليم ليكون قائداً لهذه المؤسسة بحكم خبرته القيادية الواسعة، وتجربته الطويلة في العمل الخيري، فكان اختيارهما الصائب وثقتهما وتمكينهما ووعيهما، أحد الأسباب الرئيسة لنجاح هذه المؤسسة وتميّزها، واتخاذها موضع الريادة في العمل الخيري المانح.

وكان الشيخ - رحمه الله - يحثّ العاملين في مؤسسته الخيرية على الإخلاص في النية وابتغاء ماعند الله، والحرص على أن تكون المشروعات المدعومة من الأعظم أجراً والأكثر نفعاً للعباد والبلاد، كما أوقف رحمه الله وقفاً كبيراً، وخصص مصارفه على أبواب متنوعة وواسعة من أبواب الخير.

وكان الشيخ وأخاه عبدالله أوفياء مع الآخرين، يذكرون فضلهم عليهم، ويدعون لكل من أحسن إليهم، فكانا يذكران لعمّهما ناصر رحمه الله فضله، ولذا بنيا له مسجداً في مدينة الملك فهد الطبية بالرياض، وبنيا داراً نسائية متميزة في جامعة الملك سعود باسم أمهما ( دار نورة العمّاش) ، وبنيا مساجد في أنحاء المملكة، من بينها جامع شهير بمنطقة الجوف ومجمع تنموي خيري بـ( تندحة) بمنطقة عسير، وبنيا مركزاً تنموياً بمنطقة جازان، ومستشفى للتأهيل الطبي بمحافظة عنيزة، كما كان الشيخ محمد - رحمه الله - يرعى مسابقة علمية، وأخرى لحفظ القرآن الكريم في مسقط رأسه (عنيزة) كل عام.

وكانت مشروعاتهما التجارية مؤثرة في المجتمع، ومساهمة في نهضة العمل التجاري بالمملكة، فمن (السبيعي للصرافة)، إلى (بنك البلاد)، إلى مشروعات عقارية واستثمارية متنوعة في أنحاء المملكة، وقد عرف الشيخان بحرصهما على توخي الحذر في المعاملات، وتحري الحلال، والابتعاد عن الشبهات، ولذا كان مالهما مباركاً، وحين انطلق بنك البلاد الذي يعتبر الشيخان من مؤسسيه، حضر الشيخ محمد – رغم سنّه ومرضه - أول اجتماع لمجلس إدارة البنك وكان عمره حينها يجاوز التسعين عاماً، وافتتح الجلسة بقوله (أنتم أمام مسؤولية عظيمة أعانكم الله)، ثم قال لهم: (هنالك ثمانية ملايين مكتتب سوف يدعون لكم أو يدعون عليكم، فاتقوا الله في هذه الأمانة وكونوا أهلاً لها، وأعرف أن الحمل ثقيل ولكن الرجال لا ينوء بهم ثقل الأحمال).

وتعتبر الشراكة الفاعلة والموفقة بين الشيخ محمد رحمه الله، وأخوه الشيخ عبدالله حفظه الله أنموذجاً على الشراكة الناجحة، فقد كانت نشاطاتهما التجارية مندمجة تماماً، وقد أسسا ( شركة محمد وعبدالله ابراهيم السبيعي) عام 1352ه ، واستمرت الشراكة بينهما ما يقارب الثمانين عاماً كانا فيها أوفى ما يكونان لبعضهما، وقد صدقا وبيّنا فبارك الله لهما، ونمت ثروتهما، وتوسعت أنشطتهما، وفي عام 1431 هـ قرر الشيخان محمد وعبدالله بكل سماحة نفس، ومودة، ووفاق، أن يتقاسما استثماراتهما وثروتهما، فكانا مثالاً للتسامح، يقدم كل منهما الآخر في العقار الذي يريد، ولم تشهد عملية الفصل تلك أي اختلاف أو خصومة، بل كان الحب والإيثار هو سيد الموقف.

كانت تلك بعض المعالم الرائعة في مسيرة الشيخ رحمه الله، ولازالت سيرته الرائعة تحتاج المزيد من التحرير والكتابة، ففيها عبرة وعظة ودروس كبيرة، جديرة بهذا الجيل ان يستلهمها، ويتمثّلها.

اللَّهُمَّ اغْفِرْ لأَبِي إبراهيم وَارْفَعْ دَرَجَتَهُ فِي الْمَهْدِيِّينَ، وَاخْلُفْهُ فِي عَقِبِهِ فِي الْغَابِرِينَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ ، وَافْسَحْ لَهُ فِي قَبْرِهِ وَنَوِّرْ لَهُ فِيهِ.


دمتم بخير ،،

محمد بن سعد العوشن
@binoshan

أغسطس 01, 2017

المؤثرون الذين لا يؤثِّرون



ما أعظمها من مصيبة حين يتحول الإيجابيون والمؤثرون وطلبة العلم والدعاة والمستشارون من الإنتاج‏ المعرفي والعلمي والتطبيق العملي وتحقيق الأهداف وخدمة المجتمع إلى الاستهلاك فحسب.
وحين يتحول هؤلاء الصفوة من البحث عن الدقائق الضائعة طمعاً في توظيفها والاستفادة منها إلى إهدار الساعات الطوال على توافه شبكة الإنترنت!
وحين يكتفي القادرون على التأثير والتغيير بمجرد المتابعة والرتويت والتفضيل وكتابة تعليق هنا أو هناك!
إنها مصيبة حين يصبح هَمّ الواحد من هؤلاء الذين آتاهم الله شيئاً من العلم أو الفهم أو الوعي وهجّيراه: متابعة الواتساب والسناب وتويتر وانستغرام للإحاطة بـ “ماجريات الشبكة العنكبوتية”.
وحين يكون وقت أحدهم الذي يمضيه على جواله أكثر من الوقت المعطى لكتابه وتلاميذه وصلاته وتلاوته وأهله وأهدافه.
وحين يقدم أولئك “القدوات” أنموذجاً سيئاً، وقدوةً غير حسنة في التعامل مع مضيعات الأوقات وترتيب الأولويات والتعامل مع التقنيات.
وحين يتساوى أفاضل القوم وأراذلهم، ويتساوى مثقفيهم وعامتهم في أسلوب التعاطي السلبي والتأثّر التبعي بما يتم طرحه في شبكات التواصل.

إنها مصيبة حين يظن أولئك أنهم فاعلون ومؤثرون لمجرد كونهم رجع صدى لما يطرحه الآخرون، وردة فعل لمبادرات الغير.
وحين يظنّ الواحد منهم أن هذه الإضاعة – المجرّمة شرعاً – هي من باب فقه الواقع أو الاهتمام بأمور المسلمين، وهي لا تعدو أن تكون إدماناً بكل ما للكلمة من معنى، وتطبيقاً فعلياً لحديث المنهيات الثلاث (قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال).
وحين يتواطأ هؤلاء على التساكت عن هذا الإدمان الإلكتروني لأنهم واقعون فيه، فيشرعنونه بدلاً من أن يعالجوه في أنفسهم وفي غيرهم.

أيها المباركون:
ما أحوجنا لثورة ضد هذا الإدمان الإلكتروني الخطير، يقودها القدوات التائبون ضد هذا الانسياق السلبي الأعمى مع التقنية والشبكات وما يدور فيها.
وما أحوجنا إلى وضع الأطر والأسيجة والعلامات التحذيرية أمام هذا التعلق والهيام والعشق والذوبان في شبكات التواصل مهما تلبس بلبوس حسن، وبدعوى المكاثرة والمزاحمة.
وما أحوجنا إلى مواصلة الإنكار على هذا الإدمان، وتطوير أدوات الإنكار وتنويع أساليبه، وعدم القبول بالأمر تحت ذريعة “ماعمّت به البلوى”.

تنويهات لا بد منها:
1- هذا الحديث السابق.. موجّه منّي إليك أنت أيها القارئ شخصياً! وليس لرجل ثالث تتوهم أنني أقصده وأعنيه، فإحدى مشكلاتنا: شعور الواحد منا بأن هذا الكلام ينطبق على (أولئك) وليس عليه (هو)، كما تقوله “نظرية الرجل الثالث” في التأثير الإعلامي، والتوهم بأنك أنت تقدم نموذجاً للاعتدال والاتزان المزعوم في التعامل مع التقنية، مع أنك في الواقع لست كذلك.

2- حذارِ من أن تعتبر حديثي هذا موجهاً للأسماء الشهيرة التي ذاع صيتها، من المشايخ والدعاة المعروفين، بل حديثي لك أنت، فكم من أدوار ومهام وأعمال تنتظر هَبّتك، ووقتك، وهمّتك، وكم من مساحات من التأثير تحتاج لمثلك كي يقوموا بها، ويؤثروا من خلالها، فلم تعد صغيراً على التأثير، ونظرتك لنفسك على أنك لست الشخص المناسب للتأثير، هي مشكلة أخرى تحتاج إلى أن تتعالج منها.

3-  إنما يقاس حجم المشكلة بالتفكير في الفرص البديلة، فكم من الوقت تمضيه على جوالك، وما المهام التي كان بالإمكان إنجازها لو انقطعت شبكة الإنترنت لمدة أسبوع عن العالم كلّه؟

4- أستثني من بعض حديثي هذا من كانت مشاريعهم الدعوية والتعليمية قائمة على توظيف تلك التقنيات لإيصال رسالتهم بشكل جاد ومستمر وممنهج، فهؤلاء على ثغر عظيم يمكنهم من خلاله إنقاذ من يمكن إنقاذه، وتوظيف التقنية لخدمة أهدافهم، بدلاً من أن توظّفهم التقنية لخدمة أهدافها.

5- حديثي عن هذه المشكلة لا يعني بحال من الأحوال أنني سالم منها، وأنني الطبيب الذي يصرف وصفات العلاج لمرضاه وهو معافى، بل أنا واحد منكم، أصابني من هذا الداء ما أصابكم، لكنني لم أجد بُداً من أن أقوم من بين الصفوف واعظاً لنفسي ولأحبتي، لكي يتحقق فينا قول الله تعالى {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110]، وقول المصطفى صلى الله عليه وسلم (والذي نفسي بيده لتأمُرنّ بالمعروف ولتنهوُنّ عن المنكر أو ليوشكنّ الله أن يبعث عليكم عقاباً منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم)

وما أسعدني برسالة لاحقة منك تُبشّرني فيها بدخولك مع نفسك في برنامج علاجي فعلي، ووصولك لمرحلة التشافي من هذا الوباء.
دمت مؤثراً فاعلاً إيجابياً، وجعلك الله مباركاً أينما كنت.
وتقبل كل تقديري ومحبتي وودّي واعتذاري وقسوة عبارتي فإنني أرجو أن تكون قد صدرت من قلب محبّ مشفق.
وألقاك على خير.


محمد بن سعد العوشن
13 ذو القعدة 1438هـ
@binoshan