يوليو 16, 2017

كل شيء حلال!

كان قلبه يخفق مع كل موعظة، ويرق مع كل آية تذكر الجنة والنار، يعصي ثم يتوب، ويعصي ثم يتوب، والله يحب هذا العبد التوّاب الأوّاب.
ولا يزال بخير ما دام كذلك، ما لم ينتقل للضفة الأخرى التي تستبيح المحرمات، فحينها تكون الكارثة!
ثمة فرق كبير بين معرفة الحكم الشرعي، وبين القدرة على تطبيقه والالتزام به.
والعجز عن التطبيق لا يؤدي لإنكار الأصل.
فما من شك أن الصلاة والصيام والزكاة والحج واجبات شرعية ، لكن التخلف عن شيء منها لأي سبب، والتكاسل عنها .. لا تجعل المرء يبحث عن إسقاط حكم الوجوب وتغييره.

كما أن إطلاق البصر في النساء المتبرجات، الكاسيات العاريات، والحضور في اللقاءات المختلطة، والخلوة بالرجال، وشرب الدخان، فضلاً عن المسكرات والمخدرات، وتأخير الصلوات عن أوقاتها، والكذب والتطاول على أعراض الناس، ونحوها من التجاوزات التي يقع البعض فيها أو في جزء منها، كلها “محرمات” واضحة وثابتة ومتواترة، فالوقوع فيها لا يجعل المرء يبحث عمن يبيحها له!

فإن الوقوع في ذلك المحرم، أو التقصير في أداء الواجب أمر خاطئ، يوجب العقوبة بنص الشارع الحكيم، غير أن الحسنات يُذهبنّ السيئات، وقد جعل الله جملة من العبادات مكفّرات لسواهن.

وترى المسلم الواقع في تلك التجاوزات خائفاً من الله، مستغفراً من ذنبه كل مرة، يسأل الله الهداية والتوفيق، وتراه يستمع بين حين وآخر للموعظة فيرتجف لها قلبه، وتدمع عينه لما يعلم عن نفسه من تقصير.
وتراه ينظر للمعافين من ذنبه نظرة إعجاب وتقدير واحترام، لأنهم غلبوا أنفسهم الإمارة بالسوء، وأطروها على الحق أطراً، ويؤمل أن يهديه الله لذلك في قادم الأيام، وإن كان أباً وجدته حريصاً على حثّ ابنه على عدم اللحاق به في خطيئته.
كما تراه في مواسم الطاعة يقبل بكليته، ويسعى بجهده لعل الله أن يكفّر عنه سيئاته ويعظم له أجراً.

وهذا حال كل مؤمن بالله، فكلنا ذوو خطأ، ولكل منا ذنوبه التي يعلمها الله وإن جهلها الخلق وسترها الله علينا.

وإنما تكون المصيبة حين يسوّل الشيطان للعاصي أن ( يبرر ) معصيته وتقصيره، فيشكك في تحريم المعاصي أو في وجوب الواجبات.
فحينها يكون المرء انتقل انتقالاً جذرياً.

فيبدأ في إيهام نفسه أنه لم يصنع ما يوجب العقوبة أصلاً، فالأدلة غير صحيحة، أو غير صريحة، أو أن هناك من العلماء من يقول خلافاً للقول السائد، أو نحوها من المعاذير الوهمية التي تحول المرء من مستغفر لذنبه إلى مجاهر ومصرّ ومستكبر.

ويتحوّل من الوقوع المؤقت والزلات غير المنتظمة إلى استمرار وثبات وتكرار ومجاهرة.
ولا تؤنبه نفسه اللوامة، ولا تؤثر عليه الأوقات ولا الأماكن الفاضلة، كما أنه لا يستمع للموعظة، ولو استمع لها إجباراً لم يشعر أنها تخاطبه.
فلا تؤثر فيه آيات الكتاب حين يستمع إليها، ولا تحرك فيه ساكناً.

إن من أعظم البلاء أن يتحول المرء من فاعل للمنكر إلى مستبيح له، مهوّن له، ناشر للشبهات حوله، فمثل هذا يتحوّل قلبه إلى مثل الكأس المقلوب الذي لا يفلح سيل المواعظ في الولوج إليه، وكأنما ختم الله على قلبه، فيصبح ذا سمع لا يسمع به، وذا فؤاد لا يفقه به، وذا عقل لا يعقل به، عياذاً بالله.

فحذاري أيها القارئ الكريم من تبرير المنكرات، وتتبع الشطحات الفقهية، والتماس الفتاوى الشاذة، وتذكر جيداً أن الإثم ما حاك في نفسك، وكرهت أن يطّلع عليه الناس، وإن أفتوك وأفتوك.
وأن جريمة إنكار الحكم الشرعي أخطر بكثير من جرم المعصية مهما عظمت.
وأنك بهذا الصنيع إنما تخدع نفسك، أما الله فإنه يعلم السر وأخفى، ويعلم ما تُخفي الصدور.

تم النشر في صحيفة تواصل من هــنا


محمد بن سعد العوشن
@binoshan

يوليو 14, 2017

السعادة حين نملكها


نتوقع في أذهاننا فروقاً أكبر من الحقيقة بين مقدار السعادة عند أهل الثراء الفاحش والفقراء، ونتوقع في أذهاننا فروقاً أكبر من الحقيقة في مقدار السعادة عند الأصحاء والمرضى والمعاقين.
لم أقل أن المال والصحة لا يؤثران على السعادة، لكنهما وحدهما غير قادرين على جلبها، ولا تقاس السعادة بنسبة توفرهما، فالفروق التي في أذهاننا قد لا تكون صحيحة - كما يقول دان جلبرت - .
ولكي يكون الكلام أكثر دقة، ومنطقية، فإننا نتذكر دوماً كلاماً لأبي العباس شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، كلاما طالما رددناه معجبين به، لكننا اليوم نتحدث عن تطبيقه في واقعنا على هذا الموضوع الذي نحن بصدده.
(ما يفعل أعدائي بي ؟
أنا جنتي و بستاني في صدري .. 
أين ما رحت فهي معي .. 
أنا حبسي خلوة .. 
ونفيي سياحة .. 
و قتلي شهادة )

حين يقول ابن تيمية أن سعادته وجنته في صدره، فهو لا يمزح ولا يكذب.

وحين يقول بأن أعداءه لا يمكنهم سلب السعادة من قلبه فهو لا يقول سوى الحقيقة التي يعتقدها.

السعادة - ياقوم - ليست ظروفاً خارجية، تصنع لك السعادة أو تسلبها، ولكنها مشاعر وجدانية، وتحكّم داخلي، وإعادة رؤية للمشاهد والظروف المختلفة من جهات أخرى.


فابن تيمية - في مقولته السابقة -  يرى أن السجن وحبس الحرية التي تعتبر أحد أكبر منغصات السعادة في أذهان الكثيرين، والتلويح بها سبب للخوف والقلق الكبيرين يراها من وجهة نظره أحد أسباب السعادةّ!

 فالسجن لابن تيمية "خلوة"، خلوة بربه، وخلوة مع نفسه، ووقت مجاني للانقطاع عن المشغلات والمكدرات اليومية التي تقتحم عليه عبادته لربه. وتأمله في الكون والحياة.
والناس يبحثون عن وقت يتخففون فيه من الشواغل فلا يجدون ولا يستطيعون، لكن ابن تيمية يحصل عليها - وفقا لكلامه- مجاناً وبدون أي طلب.

وهو يرى أن الطرد والإبعاد من الوطن، وتركه يهيم في أنحاء الأرض بعيداً عن موطنه الأصلي، هو فرصة سانحة للسياحة في البلدان والأقاليم، ووقت مناسب للتفكر في آيات الله المنثورة وعجائب صنعه، والتي يبذل الناس الغالي والرخيص ليحصلوها إن استطاعوا.

وهو - أي ابن تيمية - يرى أن القتل، الذي هو أقصى عقوبة يمكن أن تنفذ بحق الإنسان، وهو عند الناس من أسباب التنغيص ليس لمن تقرر تنفيذ القتل بحقه فحسب، بل لكل أهله ومعارفه، وقد يلازمهم الأسى لذلك سنين عدداً، وربما أورثهم الحزن مرضاً أو موتاً، يراه أقصى أمنياته، وغاية مأموله، فهو- أي القتل في حالة ابن تيمية ومجاهرته بالحق والدين -  "شهادة" تجعله مع الأنبياء والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا.

لذا لا عجب أن يتساءل متعجباً في أول جملته الشهيرة ( مايفعل أعدائي بي؟)

إن غاية مايريده عدوك أن يسلب منك السعادة، ويورثك الحزن، فإذا كانت كل أسلحته التي يملكها تحقق خلاف الهدف الذي تستعمل له، فإن العدو - والحالة هذه - سيكون عاجزاً مشلولاً إلا من تقديم الخدمات المجانية للإمام.

إن مفهوم السعادة لدى هذا الإمام الكبير مختلف عن مفهوم السعادة السائد في مجتمع اليوم.

فهو يرى أن مصدر السعادة، ومنبعها، وأصلها، داخل النفس لا خارجها، فجنّته وسعادته وسروره في صدره.

فالجنة الدنيوية في مفهومه ليست مساحات خضراء واسعة من الأرض، وليست مراكب فارهة، ولا قصوراً فخمة، ولا أطعمة متنوعة، ولا أجواء منعشة، ولا مالاً كثيراً متوافراً، فكل هذه الأشياء لا تشكل لديه سبباً حقيقياً للسعادة إذا لازمت البعد عن مرضاة الله وأوامره، لذا ربما رأيت من أتيحت له هذه كلها أو جلها، ومع ذلك لا يفارقه الأسى، وترى الحزن رفيقه حيثما حلّ وارتحل.

وإذا استشعرنا أن "السعادة" تكمن في الداخل، وأن هذه السعادة الداخلية يمكنها أن تجعل المرء مبتهجاً وفرحاً وجذلاناً حتى بذهاب بعض النعم وزوالها الدائم أو المؤقت، وأن هذه السعادة الداخلية كفيلة بمحاربة الحزن والكدر لفقدها، إذا استشعرنا ذلك فإن من المهم حينها أن نعيد تعريف السعادة في أذهاننا من جديد، وأن ندرك - حقاً - أننا بتغيير تصوراتنا، واستشعارنا للأجر، وتقبلنا للبلاء، ورضانا بالقضاء، وتسليمنا للمقادير، يمكننا أن نكون سعداء بل في غاية السعادة مهما كانت الظروف والأحوال.

ولذا اعتبرت القناعة (كنز لا يفنى) لأنها ثابتة باقية بينما الأموال والثروات متحركة وذاهبة.

وختاماً :  تذكّر أن سعادتك  دوماً وأبداً تنبع من داخلك، فغير تصوراتك، تسعد بإذن الله.

دمتم بخير ،،
محمد بن سعد العوشن
@binoshan

يوليو 14, 2017

أعياد الأمة المرحومة


ينظر البعض إلى احتفالات الكريسمس، ورأس السنة الميلادية، ثم يعقد مقارنة جائرة بأعيادنا (عيد الفطر وعيد الأضحى)، فتراه يتحدث ويكتب ويطالب بأن نحذو حذو القوم، ونجعل العيد طربا واسع النطاق، وخروجا عن كل مألوف ليكون عيدا حقيقيا!

والحقيقة أننا امة مختلفة، فمرجعياتنا، وثقافتنا، وقدواتنا، وهويتنا، تحمل الكثير من التميز والانفراد والاختلاف.


وكان جديرا بنا أن ننظر لأولئك القوم بنظرة الرحمة والشفقة، والاستصغار في الوقت ذاته.

فحين يصفنا الله بأننا “الأعلون”، فإننا كذلك برغم كل مانحن فيه من حال التقصير والتخلف والضعف، لكننا بكل عجرنا وبجرنا .. نحن الأعلون، وهم الأدنى والأقل.

نحن أمة نؤمن بدين هو آخر الأديان السماوية ونؤمن بنبي هو خاتم الأنبياء، مع إيماننا بكل الأنبياء والرسل السابقين، ونحن أمة نملك آخر الكتب السماوية نزولا، ونحن أمة لم يحرّف كتابها المقدس خلافا لكل الكتب الأخرى التي عدلت وبدلت، وتولى التعديل رهبانهم وعلماؤهم الذين باعوا دينهم بثمن بخس، وكانوا فيه من الزاهدين.

فلذلك نحن أمة مختلفة جذريا عن باقي الأمم.

وعودة على موضوع “العيد” فإننا معاشر المسلمين إنما نقيم العيد بعد إكمال موسم طاعة مبارك، فيكون العيد في حقيقته ابتهاج بالانتصار على النفس وعلى الشيطان.

لذا كان ختام صيام رمضان وقيام لياليه، وتلاوة القرآن،  وإخراج زكاة الفطر ؛ أن يفرح المسلمون وحُق لهم ذلك، ويتبادلون التبريكات والدعوات بأن يعيده الله اعواما عديدة على خير حال.

ولذا كان ختام العشر المباركة من ذي الحجة، بكل طاعاتها، وصيام عرفة او الوقوف به، واداء المناسك، و ذبح الأضاحي والهدي استجابة لأمر الله وإنفاق المال في ذلك؛ أن يفرح المسلمون في ختام ذلك الموسم المملوء بالطاعات المتتالية.

إن اعيادنا هي (احتفال بحصول الطاعات)، لذا كانت التوصية بالتزين واختيار اجمل الملابس والطيب، وإظهار البهجة من اجل الاحتفاء بهذا الإنجاز المبارك.

ولذا سمي يوم العيد عند بعضهم ب”يوم الجوائز”.

والخروج للعيد عند امة “الأعلون” لا يكون مصحوبا بالموسيقى الصاخبة، ولا التعري، ولا كفر النعمة؛ بل هو خروج مصحوب بالذكر والتكبير والتحميد وفق صيغ وتفاصيل ليس هذا موضع بسطها.

إن طقوس العيد -إن صحت التسمية –  لقوم فرغوا بالأمس من سلسلة من الطاعات، واختتموا عشرا مباركات (ليالي العشر الأواخر، وايام عشر ذي الحجة) ، وذكروا الله كثيرا وهم في طريقهم لمكان الاحتفال، ثم صلوا لله صلاة العيد شكرا على أن بلغهم ذلك الموسم، ثم أنصتوا لخطيب يذكرهم بشعائر الله، ثم عاد كل واحد منهم لأهله وأقاربه وجيرانه وأصحابه متواصلا مباركا .. إن طقوس هؤلاء المنجزين مختلفة كليا عن قوم يحتفلون بمجرد تكرار هذا اليوم من كل عام، فلا يسبقونه بطاعة، وليس فيه شعيرة او نسك يتبعونه، وليس سوى إجازة عن العمل، وسعي جاد للخروج عن السائد، ومحاولة الترفيه عن النفس واستحلال المحرمات، والبحث عن السعادة المفقودة في ثنايا هذه الفعاليات.

يجب أن نكون مستحضرين دوما أننا أمة يقتدى بها، وأننا “غير”، وأن السعي لمشابهة الأعز للأذل هي نكسة حضارية، فضلا عن تبعاتها الشرعية.

إن إظهار الفرح والبهجة والسرور في العيد أمر مطلوب وبقوة، والبحث عن خيارات الترفيه “المباح”  في العيد أمر إيجابي، إنه احتفال بالنجاح السابق، ووعد بالاستمرار في مسيرة النجاح.

لكن استيراد ثقافة العيد الغربي او الشرقي لعيدنا توجد لنا “مسخا”، اضاع مشيته ومشية غيره، وتجعلنا نعيش التناقض بين سلوكنا في ليالي العشر وسلوكنا في ليالي العيد!

ولهذا .. ولكي يستمر الإنجاز فقد أوصى المصطفى صلى الله عليه وسلم بعد عيد الفطر بصيام ستة ايام من شوال لإثبات قرار الاستمرار على الطاعة.

وفي عيد الأضحى، جعل المصطفى صلى الله عليه وسلم أيام التشريق وهي ثاني وثالث ورابع العيد  “ايام أكل وشرب وذكر لله عزوجل”.

فلا يوجد في ثقافتنا الإسلامية أوقات خارج السيطرة، أو فترات للإجازة من اوامر الله، فنحن إنما نتقلب في الطاعات، وإن تنوعت أشكالها وصورها.

فهل نستشعر عزتنا وقوتنا وأصالة منهجنا في زمن العولمة وطغيان الثقافة الغربية؟

منشور بصحيفة تواصل من هنــا


محمد بن سعد العوشن
@binoshan